
عندما يخرج المرء عن مساره وتتشتت أفكاره يلجأ إلى من يعيده للمسار ومن ينفض عنه تراكمات الأيام، أنا تعيدني الشجرة. في مقعدي داخل حديقتي بين أشجاري، يبدأ يخفت ضجيج الأفكار رويدا ًرويداً حتى يختفي. افرغ عقلي وقلبي من كل شيء احيط نفسي بألوان وأشكال الطبيعة حتى اصبح جزءًا منها، خضار الأشجار يحيط بي تتخلله أشعة الشمس الدافئة ويُكمل المشهد لون السماء الصافية. لا توجد كلمات لوصف ما اشعر به في تلك الأثناء لأن واقع تلك اللحظات مفرع تماماً من كل شيء. سكون وهدوء وطمأنينة، فيها يتوقف التسارع المجنون للأيام وتختفي قوائم مهام ممتده لأشهر. يقول موريس ميترلينك:
الأشجار هي الغاية الأساسية التي تمنح المتجول منا القدرة اللازمة على الصمود في وجه الحياة، وهي ما تمنحه الشجاعة، والحيوية، والرزانة والنصر الصامت والمثابرة.
ذكاء الأزهار – موريس ميترلينك
يقصد موريس ميترلينك حياة الشجرة كلها، أن يتدبر اللإنسان في نموها وطريقة تكيفها مع بيئتها وغيره من الحقائق المذهلة عن عالم النبات. يحثنا أن نتعلم ونكتشف ما سبقتنا إليه المخلوقات الحية التي سبقت وجودنا. فهو يؤمن أن كل الموجودات من أدوات وتصاميم اخترعها الإنسان هي في الأصل مؤخوذة من النباتات أو الحيوانات. أما أنا فأميل إلى الجانب الحالم هنا، وجود الشجر بحد ذاته يبعث كل هذا الشعور ويحثنا على عبادة التأمل في صنع الخالق تبارك وتعالى. فأنا أحيط نفسي بالأشجار الداخلية والخارجية.
اؤمن بتأثير الطبيعة على الأشخاص من مختلف البيئات، طبيعة مدينتي الأم جبلية كبرت وأنا انظر للجبل في كل حين. عند التنزة و عند التنقل داخل المدينة بل حتى من بيتي أراه شامخاً كل وقت. لذلك كان الانتقال إلى مدينة كبيرة خالية من الجبال أمر مربك في البداية. كنت لا أولي الأمر أهمية حتى قرأت أن هاروكي يخالجه نفس الشعور عند افتقاده الماء. اذكر في الفترة التي رافقت بداية انتقالي سألني شخص مقرب كيف لك أن تعيشي لفترة طويلة دون رؤية جبال؟ دهشت من السؤال لأني لم افكر بالأمر على هذا النحو أبداً. ما الذي سيتغير في حياتي بفقداني منظر الجبال المحيطة بمدينتي؟ هل المفقود هو الألفة التي صاحبتنا في نشأتنا؟ أم أنها الشعورالذي يبعثه المنظر المهيب لتلك التراكمات الحجرية الراسية؟ ما ماهية الشيء الذي يرشح مني أنا وهاروكي؟
رؤية كثير من الماء مثل هذا كل يوم هي بلا شك أمر مهم … لشخص واحد: أنا. فإن مر علي وقت دون رؤية الماء أشعر أن شيئاً يرشح مني ببطء. … وربما كان لنشأتي قرب البحر علاقة بذلك.
ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري – هاروكي موراكامي
قالت لي صديقتي عن تجربة القيادة في مدينتنا الأم، أن الجبال تشعرها دائماً أن هنالك مفاجأة سارة خلفها. تشبة قيادتها ورؤيتها للجبال أمامها في حياتها فهي تسعى جاهدة فيها دون توقف وتردد سوف أمضي قدماً حتى أبلغ هذا الجبل وأرى ما خلفه. أما أنا فلا انظر إليه بأنه نقطة بلوغ أو وصول لهدف أراه آمان يحيط بنا وثبات يحث عزيمتنا.
ومن منطلق بنت الجبل فأنا لا أشعر بتأثير البحر الذي أقرأ واسمع عنه، فهو يثير في نفسي القليل من الهدوء والكثير من الخوف. لذلك فكرة الذهاب في رحلة كروز أمر لا استطيعه لأنني اعلم أن معظم الوقت سأكون في حالة تأهب وخوف. قد يكون السبب هو الاختلاف الجوهري بين الجبل والبحر، فالجبل ثابت على مدار آلاف السنين بينما البحر لا يؤتمن في تقلباته وأمواجه فهو اليوم ليس كالبارحة. كنت قد أنهيت قبل عدة أسابيع كتاب دموع الملح لبيترو بارتولو و ليديا تيلوتا مما أكد لي سبب خوفي من البحر، البحر في قصص الطبيب كان بوابة أمل مواربة. قد تفتح لك على مصراعيها وتنتشلك من جوع وموت وتنقلك إلى عالم آخر وقد تنغلق عليك وتبتلعك وترسلك إلى العالم الآخر، أو أسوأ من ذلك قد تبتلع كل فرد من عائلتك أمامك وتقذف بك وحيداً خارجها.
وقد يكون الاختلاف الذي فرق بين البحر والجبل هو المتشابهة بين الشجر والجبل مما وضعهما في مكانة متساوية عندي. فثبات الشجر مشابهة لثبات الجبل وإن تغيرت أحوالها خلال السنة فتغيراتها معروفه بل منتظره. وقد يكون هذا ما ابحث عنه في الجبال والأشجار عند خروجي عن المسار، لأن في تلك الأثناء اكون قد فقدت عنصر الثبات في حياتي فأسعى إلى ثبات من نوع آخر. أسعى إلى أن أعود إلى بعد فيزيائي ثابت أتيته في مختلف أحوالي ووجدته كما هو.
ماذا عنكم؟ ما هو عنصر الثبات في حياتكم؟
