سري الصغير: تهويدة

قبل أكثر من ثمانية عشر سنة عرضت على التلفاز حلقة للمسلسل الشهير آنذاك “أهل الغرام” ومن حسن حظي أنها كانت تلك الحلقة. لا أذكر قصتها ولا قصة أبطالها كل ما اذكره منها هو ما سأحاول وصفه الآن، تبدأ الحلقة بمجموعة لقطات تعبر عن ذكريات حميمية بين أم وابنتها. أول ذكرى هي صورة الولادة ثم صورة لأول خطوة للأبنه ثم صورة لأول يوم دراسي لها وهكذا تتابع الذكريات حتى تكبر البنت. وكانت الموسيقى الخلفية أغنية “يلا تنام” لفيروز تُضيف سحر خاص للمشهد.

أثر المشهد عليّ كان جلياً رغم صغر سني وقتها، أحسست بعاطفة قوية تجاه ابنتي التي سأراها للمرة الأولى بعد اثنتي عشر سنة من تلك اللحظة. حفظت التهويدة التي سمعتها ذلك اليوم، أصبحت سري الصغير الذي أخفيه داخل قلبي منتظره بفارغ الصبر لحظة غنائها لابنتي. وبلغ مدى خصوصية هذة التهويدة في قلبي أنني لا أرضى أن أهدي بها أولاد أخوتي كنت أردد لهم التهويدة الشعبية “يا نوم دوخ دوخ بعيون “فلان” نوخ” أغنيها لهم وأنا أضحك طرباً لسر خفي. لذلك كانت لحظة غناء التهويدة “السرية” لابنتي ساحرة جداً، لحظة متخمه بالمشاعر المتراكمة على مدار اثني عشر سنة من الحب والفرح.

اليوم أصبح السر طقساً يومياً نحبه، فأنا اكتب هذة التدوينة بعد أن ناموا أطفالي و ظللت أغنيها لهم أكثر من أربعين دقيقة بلا كلل ولا ملل. ولم يفقدها التكرار سحرها وعذوبتها. ومع كل هذة السنين من التكرار اليومي ابتدعت نسخة خاصة منها، طال التغيركلمات التهويدة الأصلية. احتفظت بالطبع باللحن واستفتاحيتها ” يلا تنام يلا تنام لأهديلك طير الحمام، روح يا حمام لا تصدق بغني للحلو تينام”. أحرص أن تكون تهويدتي الخاصة مليئة بكلمات الحب والعطف. اذكر فيها أسماء أطفالي واتبعها بكلمات تدل على جمال صفاتهم ومدى قرب مكانتهم لي. فأنا اقتنصها كفرصة لتعزيز وتأكيد وتأصيل مدى حبي لهم وإشباعهم به.

قرأت مقالة جميلة عن التهويدة تقول فيها الكاتبة أن الدراسات أثبتت أن تأثير التهويدات لا يقتصر على الأطفال بل يمتد لمقدمي الرعاية أيضاً. بعد يوم طويل من التربية واللعب والرعاية يكون مقدم الرعاية قد ناله من التعب ما ناله. قلق وتوتر وجداول لا تنتهي ثم تأتي لحظة احتضان الطفل وغناء التهويدة ليعم السكون ويهدأ الضجيج. ومفعول التهويدة السحري لا يتم بدون قرب الطفل لأمه ففي أحضانهم الصغيرة يكمن العالم بأسرة، وحاجتنا لتلك الأحضان تعادل حاجتهم لأحضاننا.

تؤمن صديقتي بفعالية هذة الأحضان وتطلق عليها “مضادات الأحزان” وقد قرأت في أحد الكتب ما يثبت ذلك علمياً، اذكر ذلك لأني قمت بمشاركتها صورة من الاقتباس. بل ويوصي الخبراء بأن يكون المعدل الأدنى لعدد الأحضان من ٧ إلى ١٢ حضناً خلال اليوم. لأهميته في الدعم النفسي ولزيادة ذكاء الطفل ونموه الجسدي. فأتت التهويدة كطقس احتفالي يقام في تلك المسافة الضيقة ما بين حضنها وحضنه وبه تختم الأحضان اليومية.

وتعلل الدراسات عن التهويدة وتاريخها وجود الكلمات والقصص الحزينة في بعض التهويدات، أن مقدم الرعاية المرهق نهاية اليوم يُفرغ ما يجول في ذهنه من مخاوف وأفكار في كلمات التهويدة. مثل التهويدة العراقية التي تشكي فيها الأم بعد الزوج المسافر. ثم تؤكد الدراسة أن الكلمات لا تؤثر على فعالية التهويدة على الأطفال لأن ما يعمل على تهدئتهم هو اللحن الذي يسمعه بصوت أمه. أما أنا فلي رائي آخر، إن كانت الكلمات لا تؤثر على عمل التهويدة في تهدئة الاطفال ومساعدتهم على النوم فهي تؤثر بكل تأكيد على وعي الطفل المسكين والرسائل التي تصله من مقدم الرعاية. شتان ما بين طفل ينهي يومه بكلمات حزينة وبين طفل ينهيه وهو ممتلئ بكلمات الحب والثناء بصوت يحبه ويألفه ويثق دائما بأن ما يخبره هو الحق.

أضف تعليق