
قبل يومين خرجت في مهمة طارئة قبيل المغرب؛ أي في ساعة ذروة مهام الأمومة في بيتي. ولحسن حظي أخذ مني المشوار ما يقارب ثلاثاً وعشرين دقيقة، قضيتها كلها في مشاهدة غروب شمس ذلك اليوم. عندها آمنت أنني أحب الغروب كثيراً. أدركت ذلك عند لحظة الصفاء التي توقف فيها ذهنٌ لا يكل من تكرار المهام المتبقية والوقت اللازم لتنفيذها. كنت أراقب غروب الشمس فقط. ولفرط شعوري بالراحة والهدوء قررت أن أبحث عن ما حدث منذ لحظات؟! كنت قد قرأت منذ فترة عن تأثير الطبيعة على الإنسان ولكن أريد أن أعرف ما علاقة غروب الشمس خصوصاً بهذه السكينة. وجدت لها عدة تفسيرات:
بالطبع أولها هي ألوان الغروب المنتشرة في الجو حين تصبغه بصبغتها الدافئة. تتدرج هذه الألوان بين الوردي والأحمر والبرتقالي وتتميز بتأثيرها المهدئ على الدماغ فتبعث في النفس الشعور بالدفء والمحبة. هذا الشعور قادر على جلب ذكريات مرتبطة بهذه المشاعر مما يعزز الإحساس بها. وهذا كله مثبت في دراسات كثيرة في علم النفس اللوني وعلم النفس العاطفي. تؤكد هذه الدراسات أن ذكريات الأماكن والمناظر التي تثير المشاعر الإيجابية تُخزن في الذاكرة طويلة الأمد. فمن هذه الذكريات مثلاً مشاهدة غروب الشمس لأول مرة في مرحلة الطفولة؛ الذي أعطى معنى وجمال لهذه الظاهرة فخزن في الذاكرة طويلة الأمد بحماس ودهشة الأطفال. استجلاب هذه الذكريات يجعلنا لا نمل من تكرار مشاهدة المناظر الجميلة، حتى وإن كان يتكرر يومياً مثل الغروب.
المديرة التنفيذية للجمعية الأسترالية لعلم النفس، زينا بورجيس، تؤمن أن غروب الشمس يصلنا بقوة عظمى تفوق القوة الإنسانية، فيؤدي ذلك إلى الهدوء والسكينة، وتعلل ذلك بنتائج الدراسات التي أثبتت أن الطبيعة تحفّز الجهاز العصبي الباراسمبثاوي المسؤول عن الاسترخاء، وتقلل من نشاط الجهاز العصبي السمبثاوي المسؤول عن التوتر. بالتالي التعرض للطبيعة بشكل عام له تأثير إيجابي على الإنسان، خاصة الإنسان الذي يعيش في بيئة مدنية خالصة، كمن يعيش في المدن الكبرى. فهي تساهم في خفض مستويات التوتر والقلق لدى الإنسان. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن المناظر الطبيعية تحسن المزاج وتقوي الذاكرة وتحسن من القوة الإدراكية التي تساعدنا في توجيه الانتباه والتركيز. الذي قضت عليه خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي.
تأثير الطبيعة علينا يبدأ مبكراً في عمر الطفولة ويمتد إلى أن نكبر. ففي إحدى الدراسات التي أُجريت على عدد من البالغين قُسموا فيها إلى مجموعتين، كانت المجموعة الأولى أعضاؤها نشأوا في بيئة طبيعية وكانوا يتعرضون للطبيعة أكثر من أعضاء المجموعة الثانية الذين نشأوا في بيئة مدنية. أظهرت النتائج أن المجموعة الأولى كانت أقل تعرضاً للاكتئاب من المجموعة الثانية بعد البلوغ. فكانت الدراسة توصي بالحرص على خروج الأطفال إلى الطبيعة بشكل دوري، مثل الذهاب إلى الحدائق والجبال والبحر وغيره؛ من أجل صحتهم النفسية. فلو حاول الوالدان تعويض نقص البيئة الطبيعية بتعريف أولادهم عليها من خلال الشاشات لن ينفعهم. فقد أُجريت دراسة للمقارنة بين تأثير مشاهدة صور للطبيعة (مثل نبتة) وتأثير مشاهدتها مباشرة في الطبيعة. كانت النتائج تدل على زيادة تركيزات الأوكسي هيموجلوبين في القشرة الجبهية الأمامية للدماغ أثناء مشاهدة النبتة في الطبيعة، وهذا لم يحدث أبداً خلال مشاهدة صور النبتة نفسها. ويدل هذا على أن الطبيعة لها فوائد فسيولوجية لنشاط الدماغ لا يمكن الحصول عليها من مشاهدتها خلف الشاشات.
الجانب الجيد أننا نستطيع أن نعوض البعد عن الطبيعة من خلال دمجها في حياتنا اليومية، مثل اقتناء النباتات الداخلية فهي تحسن من جودة الهواء وتقلل التوتر والإجهاد. تخصص وقت للمشي يومياً في الأماكن المفتوحة والتعرض لضوء الشمس في الأجواء اللطيفة. وبالطبع مراقبة غروب الشمس، فالغروب محفز طبيعي لحالة التأمل فهو فرصة للقيام بعبادة التأمل والتفكر في حسن خلق الله ودقته. وهو حلقة وصل بين الإنسان المدني والإيقاع الطبيعي للحياة؛ فيعزز شعور الانسجام مع الطبيعة. وقد يمثل للبعض جرعة تفاؤل في نهاية يوم منجز ومتعب فيعزيز الشعور بالامتنان، ويحفز التفكير العميق.
