أرشيف الكاتب: داليا

رَ أم رُ – رسائل لن تصل (2)

عزيزتي رَ هل تعلمين لما أضع الفتحة على أول حروف اسمك هنا؟

الليلة التي صعدت فيها روحك إلى السماء كنت أنا هُنا على الأرض أكاد أُجن من فرط وقع الخبر. لم استطيع النوم، شعوراً ظل يحثني على أن استعرض كل حساباتك الشخصية على الانترنت. وعلى عكس الكثير -ربما- لم ابحث عن صورك في هاتفي، حتى بعد تلك الليلة بأسابيع. كنت ابحث عن الكلمة. شعرت أنك ما زلت حية من خلالها أحسست أن الروح تدب فيك عند كل كلمة أقراها. أم أنها كانت تدب فيني أنا -لا أعلم-.

بدأت في تويتر مكاننا الأثير، أعادني بالزمن خمسة عشر سنة وربما أكثر. من عادتي بعد أن أنطق بمدة زمنية كهذة أقول “عُمُر” لكني هنا توقفت كثيراً بعدما كتبتها. لم أجرؤ أن اقول انه كان عمراً، بل مرت كلحظة بل ثانية. خمسة عشر سنة مدة قصيرة اقضيها معك. كان تويتر هو المكان الشاهد على تغيراتنا، قضينا فيه مراهقتنا المتأخرة ثم الشباب وانتهى -انتهى-. كانت نظرتنا قاصره ككل الشباب، كنا في قمة حماسنا للحياة مفرطين في التفاؤل نخطو خطواتنا الأولى في عالم الكتب نمتص كل ما نقرأ كاسفنجة، كما تحبين أن تذكري هذا دائما. ثم هدأت الشعلة وتوازنت النظرة وأخذنا الحياة بجدية أقل. لم نسقط في وعر التشاؤم أبداً. أعلم أنك في مرحلة تالية زهدتي في الدنيا أما أنا فلا، هذة مرحلة سبقتني بها وأوصلني لها موتك.

منشور رَ في رديت رداً على محزون يعاني ألم الفقد

أما “ريدت” تطبيقك المفضل، كان عزائي بعد وفاتك. قبل عامين كتبت رداً (الصورة في الأعلى) تواسين فيه محزوناً يبكي فقيده، كانت كلماتك في غاية اللطف مسحت عن قلبي حزني بطريقة غريبة. ترى هل كنت تعلمين أني سأكون أنا ذاك المحزون وستكونين انت ذاك الفقيد؟ لم تحبي الشكوى وترفضي أن تعيشي في الحزن، كنت اعلم ذلك. لم أكن اشكي لك كما اشكي لغيرك، كنت أصيغ مشاكلي كسؤال فلسفي أخلاقي نناقشه سويًا. وكنت أعود دائمًا وقد حلت عُقد كانت تعتصر قلبي. غرقت تلك الليلة في حسابك، أصور كل ما تقع يدي عليه. احتفظ فيه وأكرر قراءته أكثر من مرة وكأن ما كتبتِه سيرحل كما رحلتي! فتحت الصفحة الرئيسة لحسابك ثم ضمتت هاتفي وأغمضت عيني. “الحمدلله باقي لي من رَ شيء ما عرفته عنها، باقي لي من رَ كلام ينتظرني أقراه! الحمدلله هي ما انتهت باقي لي منها شيء!” ظللت أردد تلك الجمل حتى غفوت. تبدو الفكرة طفولية وغير منطقية الآن لكنها لم تكن كذلك وقتها؛ خلت الحياة من المنطق في تلك الليلة.

في الليلة التالية تذكرت انستقرام. وجدتك هناك كما كنت قبل سبعة سنوات؛ تركته قبل سنة واحدة من المرض. ألمني حسابك فيه وجدتك صغيرة جداً، ونابضه بالحياة. تصفحته سريعاً ووقعت عيني على منشور كان رائجاً وقتها. تحديتك فيه أن تكتبي عشرة حقائق عن نفسك، كنت ممتنه أن الله قدر لي اختيارك بالتحدي. كتبتِ فيه عدة حقائق عن نفسك وقد شدني منها هذة الحقيقة: أن من حولك ينطقون اسمك بطريقتين بفتح الراء وبضمها، وأنك تعلمين كل شخص وطريقته. حينها فقط اكتشفت طريقتي يا رَ.

سأظل اكتب لكِ حتى ألقاك يا حبيبتي في جنات عدن بإذن الله، أحبك.

عزيزتي رَ – رسائل لن تصل (1)

مر أسبوع على وفاتك! وأنا ثابته عند لحظة الفقد الأولى. اللحظة التي علمت فيها أنك لست في هذة الدنيا. لم تكن لحظة عادية، فقدت فيها الحياة لونها ولم تستعده حتى الآن. تبدو اللحظات بعدها بطيئة وغير منطقية. تمر الأيام كما هي! تشرق الشمس في ميعادها وتغرب في نفس الميعاد كما كانت سابقاً. يخرج الناس لأعمالهم كأن شيئاً لم يكن. لم تتوقف الدنيا للحظة! اعرف هذا من قبل ولكنه الآن يبدو في غاية الجنون.

لم يبلغني أحد بخبر رحيلك، قرأته في وجيههم قبل أن ينطقوه. رأيتهم فقط وبدأت أصرخ باسمك بأعلى صوتي. غاب كل شيء حولي. كنت احاول أن أراى أي إشارة منهم لنفي الخبر ولكنه قد وقع. هل حقًا يا حبيبتي ما حدث؟ فقدت صوتي بعدها، حاولت أن اسألهم متى كان؟ لكن حبالي الصوتية إنهارت كجزء من عالمي الذي تهاوى قبل لحظات، لم يخرج مني سوى وشوشة سمعوها بصعوبه.

بكيت، بكيت كثيرًا. طلبت منهم الذهاب لمنزلك الذي أحب، ولأول مرة يتوجس قلبي من دخوله. لكن خطواتي كانت تتسابق كنت افتش عن أي علامة تكذب الخبر. لم أجد! كان بيتك مزدحم و رأيتهم كلهم؛ رأيت أناس لم أرهم في حياتي و رأيت أناس لم أرهم منذ مدة ولكني لم أراك فيه! كنت أفتش عنك في وجوة أحبتك، أتلمس أسلوبك ونبرة صوتك. لم أجدك! كنت استثنائية ومختلفة، أشعر بالأسى لكل من لم يعرفك.

هل تعلمين يا حبيبتي، أجزم أنهم لا يعلمون مالذي فقدته برحيلك. كانوا يطلبون مني الهدوء و “لا تزيدين على أهلها” ولكني كنت أنا من أهلها! أنا أخصها وهي تخصني. عزائي أن أهلك يعرفون وأنت يا حبيبتي بالتأكيد تعرفين.

لا تزال كلمات المعزيين تتردد في أذني. “شهيدة بإذن الله” “المبطون شهيد، هي الحظيظة الحين ارتاحت من الدنيا وشقاها” “كانت تعبانة جداً موتها رحمه لها بإذن الله” “هذا طريقنا كلنا حنا ماشين عليه هي بس سبقتنا” “أهل البلاء يكونون في منزلة عظيمة يوم القيامة لدرجة إن الناس إذا شافوهم يتمنون إنهم قرضوا بمقاريض” “مكتوب عليها من كانت في بطن أمها” “هذا يومها وما أحد راح يتعدى يومه” “وين أهلنا اللي قبل كلهم راحوا” كنت اسمعهم فقط، أنا اعلم كل هذا، اعلمه! أنا مؤمنة بقضاء الله وقدره. اسمع التعزيات وأؤمن بمواساتها ولكن عقلي يعجز أن يستوعب أن هذة التعزيات عنك أنتِ.

هل تحفظين السر؟ أنا لم أستوعب رحيلك حتى الآن. اكتب هذة الرسالة بدموعي. عقلي يؤمن باستحالة وصولها لكن قلبي يأبى التصديق. كيف لا وإنتِ الوحيدة التي تعلمين بأمر مدونتي هذة! أتلمس رحمة الله في ذلك لأن بدونها قد افقد عقلي تمامًا.

هل تذكرين ما اخبرتني به بعد معرفتك بمرضك في أول سنة؟ كنت تحاولين تجنب الاجتماعات العائلية اعتقادًا منك أن حُزننا عليك بعد رحيلك سيكون أخف! هل تذكرين ضحكنا على فكرتك تلك! كنت وقتها أشعر بجنونك! لم أكن اتخيل أني سأفقدك أبدًأ. كنت قوية ومؤمنة وراضية فخيل لي أنك لن تموتي أبدًا، لكنك كنت تذبلين كشجرة! كشمعة تنطفي ببطء! لم أكن اعرف.

قريبتي الحبيبة وصديقتي في كل مراحل عمري، صديقة الطفولة والمراهقة والشباب وكم كنت أتمنى أن ترافقيني بالمشيب. كنت فارقه في كل شيء ترين الدنيا من حيث لا أراها، لك منظورك المختلف في كل المواضيع. كنت صديقه الفكر الوحيدة لدى، رحلتي وظللت أنا وفكري حائرين.

حياة مليئة بالتوقفات والمشاريع غير المكتمله

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}

قبل أيام أتمت ابنتي سبع سنوات وفق التقويم الهجري، اخبرتها بذلك وعبرت لها عن حماسي الشديد لنصلي معًا كل يوم. لا اعلم ما الفتوى في ذلك وهل يجب عليها أن تصلي جميع الصلوات أم ان التكليف يكون عند بلوغها. ولكن قرأت قبل فتره أن من سبع سنوات إلى عشر سنوات هي فترة التدريب لتلتزم بأداء الصلوات وحدها. لذلك بدأنا ببعض الصلوات وليس كلها. هدفي في هذة المرحلة تحبيبها في الصلاة وحرصها لتلبية النداء عند الآذان، أما اتقان الصلاة فهي تعرف أركانها ولكنها لا تتقنها بصوره كاملة. لا مشكلة سيكون معنا ثلاث سنوات نتدرب حتى تتقنها.

هل ذكرت لكم أن أطفالي يهذبونني في التربية أكثر من تهذيبي لهم؟

تجبرني الأمومة على الخروج من منطقة راحتي. أما المدارس والعلاقات الاجتماعية تختبر مبادئي في التربية. أدركت في الفترة الآخيرة أن بعض المشاكل التي تحدث مع أطفالي يكون حلها في تغير طباعي والتخلي عن بعض المعتقدات التي تحتاج إلى مدينة فاضلة لتطبيقها. نحن غير مثاليين وسنربي أطفالًا غير مثاليين في عالم غير مثالي، سعينا المستميت لتطبيق الأفكار التربوبية المثالية مرهق وغير عملي في بعض الأحيان. من الحكمة التنازل وموازنة الأمور.

قيل لي أن الامتيازات للعائلة المغتربة أكثر من العائلة المستقرة مع “جماعتهم” في نفس المدينة، فهم يستطيعون السيطرة على أولادهم فالقوانين واضحة والتدخلات معدومه، و مقارنة الأقران مصطلح يسمعون به ولا يعيشونه. ألغيت الأطراف الخارجية ولكن الجانب الاجتماعي كله ألغي معها. لن تنتبه الأم لذلك في عمر الطفل المبكر، حتى يبدأ يتفاعل طفلها مع من حوله. يجب على الأم هنا أن تدرك أن مجتمع أطفالها سيكون من مسؤوليتها وحدها فيجب عليها أن تبني علاقات اجتماعية لتكون صداقات طفولة لهم.

كذلك عند عودتهم لأهلهم واجتماعهم مع أقرانهم ستلاحظ فجوة في العلاقات قد تكبر كلما ازدادوا بالعمر خصوصًا اذا كانت بين الأقران لقاءات اسبوعية وهذا طبيعي جدًا. ولحسن الحظ أنها من المشاكل التي تستطيع أن تتفادها مبكرًا لذا وجب على الأم أن تحرص على التواصل اليومي أو شبة اليومي بينهم خصوصًا من خلال الاتصالات المرئية. أما الخروج من المنزل بشكل يومي للحدائق فهو ضروري وليس رفاهية، لأنها تخلق تفاعلات مع المجتمع الخارجي لا يمكن لنا تعويضها في البيت. وقد تعوضهم جزئيًا عن التفاعلات التي تفتقدها العائلة المغتربة البعيدة عن أهلها.

أما أنا فعلى غيري عادتي السنوية لم ابتع هذا العام أجندة،ولعل الخيرة في هذا الموضوع هو اكتشافي أن شراءها كل سنة لم يكن هدرًا للمال. بدأت حياتي في غاية العشوائية، تبدو المهام عائمة في عقلي! افتقدت القوائم المرتبة. حاولت كثيراً أن انتقل للأجندة الالكترونية، ولكن في كل مرة اضطر لاستعمال ورقة خارجية لأرتبها في البداية قبل أن اسجلها الكتروني! لذا اتجهت للبحث مجددًا عن أجندة جديدة، أحب Passion Palnner واستعملتها أربع سنوات متتالية ولكن حياتي الآن أهدأ وأبسط من تقسيماتها الكثيرة.

لا افك أن اذكر لمن حولي أنني أعاني من حبسه القارئ، آخر كتاب قراءته كان إعادة قراءة لكتاب قديم مع مجموعة قرائيه! أحاول العودة بشتى الطرق اشتركت مع مجموعتين في نفس الوقت بمبلغ مادي لإضافة دافع للقراءة، ولكني لا استطيع أن انهي الكتاب. لدي الآن أكثر من خمسة عشر كتاب معلقًا لم أقرأ منه سوى بضع صفحات. اعترتني هذة الحبسة منذ أكثر من سنة ولا أزال حبيستها. غير أنها لم تطل رغبتي في شراء الكثير من الكتب فتراكمت الكتب الجديدة في مكتبتي وكأنها تتهكم علي. عزائي في هذا أنني لم أتوقف عن القراءة لأطفالي أبدًا فكان لهم نصيب الأسد من معرض الكتاب هذا العام. أحب قراءة واستعراض قصص الأطفال وهذة من الجوانب التي لم أكن اتخيل أن اهتم بها قبل الأمومة. لا تختلف هذة المشاعر عن ما نحس به حين نتصفح كتب لأنفسنا. أقرأها وأرى إن كانت تناسب قيم الدين الاسلامي وقيم المجتمع وعائلتنا الصغيرة. ابحث عن الكتب التي تستعرض المشاكل التي نتعرض لها ثم اسألهم عن منظورهم للقصة وما هو رأيهم بتصرف البطل. بعض القصص لا يعجبني تصرفه فأقرأها لهم وأبين أن هذا التصرف خاطيء ونحاول أن نجد حلول بديله. أحب هذا الوقت جدًا وأضع أمام عيني أن هذة كلها ذكرياتهم وأن هذا ما سيبقى مني لهم بعد فترة من الزمن فأحاول أن أحسن.

قد تكون الحبسه هي سبب انقطاعي هنا كلما أكثرت من القراءة كلما زاد مخزوني وزادت رغبتي في التعبير. كما أن هذة الأيام تبدو فيها فكرة العيش وممارسة الحياة الطبيعة ضربًا من جنون، لا يحتمله قلب لا يؤمن بقضاء الله وقدره. مشاعري غدت أشبه بأفعوانية، لا اعلم ما ينتظرني في كل لحظه. تاره اقوم بواجباتي بحزم وتاره بعطف وحنو، أقفز كالمجنونة بين عدة أمور اتخذتها لنفسي وما ألبث حتى اترك كل شيء وانسحب ببطء لفراشي؛ حين تعتريني نوبة بكاء أعلم سببها. وهذا ما ينخر قلبي ويضعف قواي انني لا أملك من الأمر شيء سوى التسليم لقضاء الله وقدره. ثم احاول أن اكمل يومي كما كنت ولكني اقف في كل لحظة واتسأل: هل ما يحدث حقيقي فعلاً!

كتبت هذة التدوينة كمصافحة اعتذار، سأحاول جاهده العودة مجددًا. ادعوا لأحبابي بالصحة والشفاء ولأولادي بالصلاح والهداية.

“أنا لست مدرساً” – ناصر القصبي في طاش ما طاش

استحضر الآن مقطع لفيلسوف هندي، لاقى رواجاً قبل فترة طويلة. يقول فيه الفيلسوف “كان هناك رجل يمتلك محل يبيع فيه الشاي، لا يكاد يسلم أحداً من سطوه لسانه. وإن تسمع له تعجب منه؛ له آراء كثيرة في كل المجالات فهو ينصح الوزير والأمير والشاب الفقير. والدكتور والمهندس والطيار والكبار والصغار. وله من الاراء ما تعجب منه لدقته ورجاحة عقله غير أن مشكلته الوحيدة أنه لا يحسن صنع الشاي!” يقول الفيلسوف أن من السهل جداً على الشخص أن ينتقد الآخرين على أن يلتفت لعمله ويحسنه. ولعلي لفترة طويلة كنت أنا صاحب محل الشاي، كنت أكيل الانتقادات على الشكاؤون البكاؤون. أرى ما لا يرون وأعرف ما لا يعرفون، فأراد الله أن أجرب صنعتهم لكي أعرف ما يدور خلف الشكوى والبكاء.

أصبحت مُدرسة بديلة في يوم وليلة، رزق ساقه الله لي فالحمدلله على ما وهب. وكعادة المؤسسات مع الموظف البديل، رميت في عرض البحر بلا سترة نجاة. وكونها كانت تجربتي الأولى في التدريس شككت في قدرتي على شرح المعلومة وإيصال الفكرة لطالباتي. خصوصاً أنني لم أحب التدريس يوماً ولا أرى نفسي كمعلمة. كنت وقتها اتذكر تحلق زميلاتي حولي قبل كل اختبار لأشرح لهن، ومن ثم اتذكر سعادتهن بعد الخروج من الاختبار والشكر الذي كن يمطرنني به. فأطمئن واستعيد شتات الثقة وأنهض.

وبعد عدة حصص دراسية علمت أن إيصال المعلمة ليس بتلك الصعوبة التي كنت أتخيلها. إنما تكمن الصعوبة في الإعداد للدروس المختلفة حسب المناهج المنوطة بي، التكرار الممل للشرح لكل فصل والمهام الجانبية التي تأخذ من وقت وجهد المعلم. وبالطبع حياة الأم العاملة التي قد اكتب عنها في تدوينة منفصله لأنني فيها استعدت قدراتي الرائعة في التخطيط المسبق وتنفيذ الخطط بالدقة المطلوبة. كنت وقتها استعيد مجد سابق، شعور يشبة الانتصار ودف لم الشمل.

هذة التجربة الجميلة جعلتني أدرك مدى عمق العلاقة التي يستطيع المعلم أن يبنيها مع طلابه. وبشكل غريب جداً استطعت أن أعيد إحياء ذكرى جميع المعلمات والأساتذة ودكتورات الجامعة وأرى من أعينهن ما كان يحدث. وبشكل أغرب كنت استطيع أن اُسقط على الطالبات -في كل فصل ادخله- الشخصيات التي كانت تدرس معي في المرحلة المتوسطة. ولا اعلم لماذا استحضرت هذة المرحلة بالتحديد! في كل فصل أدخله أرى فلانه من هنا متمثله بفلانه من تلك الحقبة التي كنت أظنها ليست بعيده جداً حتى “أصبحت مدرساً”. أدركت أن الاختلاف بين ما يجري اليوم وما كان يجري وقتها لا يمكن أن يحدث في فترة قصيرة.

رأيت فيها مدى تطور مناهج الحاسب الآلي الذي بالمناسبة يسمى الآن “تقنية رقمية”. غبطت هذا الجيل على تنوع منهجهم ومواكبته لتطور العلم نفسه. وبمناسبة الحديث عن تطور العلم ساعدني تشات جي بي تي كثيراً في استعادة المعلومات القديمة وتبسيط بعض المعلمومات لتقديمها للفئة المستهدفة. خرجت من هذة التجربة وقد وثقت علاقتي بالذكاء الاصطناعي أكثر واستطعت أن القي عليه بعض المسؤوليات كمساعد شخصي خارج وداخل إطار العمل. مما خفف عبء المهام الضرورية والتي تأخذ حيز من الوقت والجهد.

هل سأكرر التجربة؟ إذا سنحت لي الفرصة مرة أخرى أن أكون معلمة بالطبع لما لا. لكني سأحرص على تكرار تجربة الأم العاملة سواءاً كنت معلمة أم لا. على عكس ما كنت أعتقد انعكست هذة التجربة عليّ وعلى أطفالي بشكل رائع.

استعادة الهدوء: دور الغروب في تقليل التوتر

قبل يومين خرجت في مهمة طارئة قبيل المغرب؛ أي في ساعة ذروة مهام الأمومة في بيتي. ولحسن حظي أخذ مني المشوار ما يقارب ثلاثاً وعشرين دقيقة، قضيتها كلها في مشاهدة غروب شمس ذلك اليوم. عندها آمنت أنني أحب الغروب كثيراً. أدركت ذلك عند لحظة الصفاء التي توقف فيها ذهنٌ لا يكل من تكرار المهام المتبقية والوقت اللازم لتنفيذها. كنت أراقب غروب الشمس فقط. ولفرط شعوري بالراحة والهدوء قررت أن أبحث عن ما حدث منذ لحظات؟! كنت قد قرأت منذ فترة عن تأثير الطبيعة على الإنسان ولكن أريد أن أعرف ما علاقة غروب الشمس خصوصاً بهذه السكينة. وجدت لها عدة تفسيرات:

بالطبع أولها هي ألوان الغروب المنتشرة في الجو حين تصبغه بصبغتها الدافئة. تتدرج هذه الألوان بين الوردي والأحمر والبرتقالي وتتميز بتأثيرها المهدئ على الدماغ فتبعث في النفس الشعور بالدفء والمحبة. هذا الشعور قادر على جلب ذكريات مرتبطة بهذه المشاعر مما يعزز الإحساس بها. وهذا كله مثبت في دراسات كثيرة في علم النفس اللوني وعلم النفس العاطفي. تؤكد هذه الدراسات أن ذكريات الأماكن والمناظر التي تثير المشاعر الإيجابية تُخزن في الذاكرة طويلة الأمد. فمن هذه الذكريات مثلاً مشاهدة غروب الشمس لأول مرة في مرحلة الطفولة؛ الذي أعطى معنى وجمال لهذه الظاهرة فخزن في الذاكرة طويلة الأمد بحماس ودهشة الأطفال. استجلاب هذه الذكريات يجعلنا لا نمل من تكرار مشاهدة المناظر الجميلة، حتى وإن كان يتكرر يومياً مثل الغروب.

المديرة التنفيذية للجمعية الأسترالية لعلم النفس، زينا بورجيس، تؤمن أن غروب الشمس يصلنا بقوة عظمى تفوق القوة الإنسانية، فيؤدي ذلك إلى الهدوء والسكينة، وتعلل ذلك بنتائج الدراسات التي أثبتت أن الطبيعة تحفّز الجهاز العصبي الباراسمبثاوي المسؤول عن الاسترخاء، وتقلل من نشاط الجهاز العصبي السمبثاوي المسؤول عن التوتر. بالتالي التعرض للطبيعة بشكل عام له تأثير إيجابي على الإنسان، خاصة الإنسان الذي يعيش في بيئة مدنية خالصة، كمن يعيش في المدن الكبرى. فهي تساهم في خفض مستويات التوتر والقلق لدى الإنسان. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن المناظر الطبيعية تحسن المزاج وتقوي الذاكرة وتحسن من القوة الإدراكية التي تساعدنا في توجيه الانتباه والتركيز. الذي قضت عليه خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي.

تأثير الطبيعة علينا يبدأ مبكراً في عمر الطفولة ويمتد إلى أن نكبر. ففي إحدى الدراسات التي أُجريت على عدد من البالغين قُسموا فيها إلى مجموعتين، كانت المجموعة الأولى أعضاؤها نشأوا في بيئة طبيعية وكانوا يتعرضون للطبيعة أكثر من أعضاء المجموعة الثانية الذين نشأوا في بيئة مدنية. أظهرت النتائج أن المجموعة الأولى كانت أقل تعرضاً للاكتئاب من المجموعة الثانية بعد البلوغ. فكانت الدراسة توصي بالحرص على خروج الأطفال إلى الطبيعة بشكل دوري، مثل الذهاب إلى الحدائق والجبال والبحر وغيره؛ من أجل صحتهم النفسية. فلو حاول الوالدان تعويض نقص البيئة الطبيعية بتعريف أولادهم عليها من خلال الشاشات لن ينفعهم. فقد أُجريت دراسة للمقارنة بين تأثير مشاهدة صور للطبيعة (مثل نبتة) وتأثير مشاهدتها مباشرة في الطبيعة. كانت النتائج تدل على زيادة تركيزات الأوكسي هيموجلوبين في القشرة الجبهية الأمامية للدماغ أثناء مشاهدة النبتة في الطبيعة، وهذا لم يحدث أبداً خلال مشاهدة صور النبتة نفسها. ويدل هذا على أن الطبيعة لها فوائد فسيولوجية لنشاط الدماغ لا يمكن الحصول عليها من مشاهدتها خلف الشاشات.

الجانب الجيد أننا نستطيع أن نعوض البعد عن الطبيعة من خلال دمجها في حياتنا اليومية، مثل اقتناء النباتات الداخلية فهي تحسن من جودة الهواء وتقلل التوتر والإجهاد. تخصص وقت للمشي يومياً في الأماكن المفتوحة والتعرض لضوء الشمس في الأجواء اللطيفة. وبالطبع مراقبة غروب الشمس، فالغروب محفز طبيعي لحالة التأمل فهو فرصة للقيام بعبادة التأمل والتفكر في حسن خلق الله ودقته. وهو حلقة وصل بين الإنسان المدني والإيقاع الطبيعي للحياة؛ فيعزز شعور الانسجام مع الطبيعة. وقد يمثل للبعض جرعة تفاؤل في نهاية يوم منجز ومتعب فيعزيز الشعور بالامتنان، ويحفز التفكير العميق.

تأملات في رواية نعاس لـ هاروكي موراكامي

بعد كتابة تدوينتي السابقة فكرت كثيراً في كتاب قراءته قبل سنتين وهو رواية “نعاس” للكاتب هاروكي موراكامي. اتذكر عند البدء بقرائتها لم أجد فيها ما يجذبني حقاً. وقعت عليها صدفة وكنت أنوي منذ زمن البدء بقراءة روايات الكاتب الياباني الشهير. وكانت النعاس أول مصافحه بيننا. الكتاب صغير جداً لا يتجاوز ال 90 صفحة قرأته في جلسة واحدة، ولم يكن حجم الكتاب السبب الوحيد لذلك. اندمجت مع الشخصية الرئيسية التي فقدت القدرة على النوم بشكل مفاجئ. كنت مشدوهه بتلك الفكرة وفكرة القدرة على استغلال جميع ثواني حياتك لفعل ما تريد. حتى وصلت نهاية الكتاب وأظن أنني استطعت أن افهم رمزية الرواية.

اتذكربعد أن أنهيتها توجهت مباشرة إلى تطبيق قودريدز على هاتفي لكتابة مراجعة* عن الكتاب. كنت أتمنى أن أوصل أفكاري ومشاعري في تلك اللحظة وكانت هذة المراجعة:

لعلي وجدت روايتي المفضلة!

على مدى سنوات قراءاتي كلها لم تمسني رواية بشكل شخصي كما مستني هذة الرواية ❤️ ولعلي وجدت سبب لمحبي هاروكي موراكامي.


هنا في النعاس الأمر أعمق بكثير من امرأة فقدت النعاس والقدرة على النوم. هنا في النعاس وجدت امرأة اختارت طريق الأمومة والزواج وانغمست في مسؤولياتهم إلى أن نست نفسها في سبيل نجاح وراحة أسرتها الصغيرة. ولكنها حافظت ممارسة الرياضة التي كانت تمارسها بحب قبل أن تلتزم بتلك المسؤوليات. فساعدتها الرياضة في إعادة الصلة بنفسها القديمة. وهذا دليل مهم على أن الشخص الذي رأته في الكابوس وكان السبب في فقدها القدرة على النوم كان بالحقيقة هي نفسها. ولمن لم يقرأ الرواية، البطلة قد رأت في الحلم أن “عجوزًا يرتدي لبس رياضي” يسكب عليها ماء لا ينضب من إناءه الفخاري. والماء هنا هو رمزية للوقت الذي زاد بأيامها واتسعت فيه حياتها عندما فقدت القدرة على النوم فاستفادت من كل تلك الساعات المهدرة بالنوم. وقد ذكر هاروكي في الرواية منام صديقتها التي فسرته بالقلق ونلاحظ وجود “العجوز” كدلالة به على صاحب المنام .

ولعلي هنا أميل إلى أن النعاس والنوم لم يكن الوضع الفسيولوجي الطبيعي، بل كانت غفلة تعيشها البطلة ثم تنبهت منها بعد الكابوس. اتسعت حياتها وأعطت نفسها حقها وأحبتها وقد ذكرت ذلك البطلة في الكتاب. فالأم في وقت من الأوقات قد تفقد نفسها بكثرة المسؤوليات وبتقديم أفراد عائلتها على نفسها. في الرواية وبعد اتساع حياة البطلة واكتسابها الوقت الذي كانت تقضية في النوم لممارسة ما تحب، لم تتأثر مسؤولياتها كأم وزوجة في بداية الأمر. لم يتغير شيء. لكن فقدان النعاس وفقدان القدرة على النوم هو أمر غير طبيعي، ففي النهاية تمكن منها النعاس واستسلمت له. وذلك بعد أن جلست في سيارتها وحيدة ثم قام شخصان بهز السيارة حتى وقعت في النوم. هنا ربطت بين الشخصين ومسؤولياتها كأم وزوجة. أي أن هذة المسؤوليات تمكنت من هز كيانها كامرأة مثلما هز الشخصان السيارة مما أدى إلى عودتها تدريجيًا إلى النعاس والغفوة. الجدير بالذكر أن البطلة كانت تقاوم وبذلت الأسباب كيلا تنام ثم استسلمت في الأخير.

قرأت هذا الكتاب وخرجت منه بهذة النظرة وأنا أرى أن الأمومة والتربية من أمتع وأصعب المسؤوليات التي التزمت بها في حياتي. قولي أن الرواية مستني بشكل شخصي لا أعني به نظرة سلبية عن الزواج والأمومة.على العكس تماماً فأنا أرى أن الحنين إلى نفسك القديمة هو تطور طبيعي ولحظة إدراك من الأم بطبيعة المسؤوليات الجديدة الملقاه على عاتقها. بالمناسبة أنت تتعلم إدارة هذة المسؤوليات بالخبرة. بدون خبرة أنت لا تملك أي فكرة عما يحدث حولك مهما كنت مستعدًا قبل ولادة طفلك، مما يضاعف شعور التية والقلق. اذكر عند كتابة هذة التدوينة كانت ابنتي تتم عامها الأول وكنت أمر بلحظة التية هذة.

لذلك عزيزتي الأم الجديدة التائهة لا تقلقي.

__________________________________________

* قمت ببعض التعديلات لتناسب من لم يقرأ الرواية.

حياة خلف الكواليس

هذة الأيام أعيش مع ابنتي تجربة الطالبة المستجدة، تدرس الآن في أولى ابتدائي. خلال تبضعنا قبل بداية المدارس عشت اللحظات من منظورها هي ومنظور والدتي، أتذكر شعوري عندما كنت في عمرها. لا استرق منها لحظاتها ولم اتكلم عن تجربتي أمامها. بل اصف ما اعيشه خلف كواليس حياتها، أرى في نظراتها الحماس والخوف والترقب وبشكل غريب استطاعت ذاكرتي أن تسترجع كل أحداث أول يوم دراسي لي. أراني في ابنتي وأرى والدتي فيني. ولم استغرب هذا الشعور فقد بدأت أشعر به منذ بدأت تعبرعن نفسها، ولكنه جلياً وقوياً هذة الأيام. لا اعلم ما السبب في ذلك. هل لحبي الشديد للمدرسة علاقة؟ أم أن ذكرياتي مع والدتي كلها عن المدرسة؟

بعد نهاية الأسبوع التمهيدي وخلال أول يوم دراسي حقيقي لها صفت في الطابور لأول مرة عندها اجتاحتني نوبة بكاء. سعيدة جداً لأجل ابنتي وعرفت أخيراً سبب قوة هذا الشعور. ها نحن أخيراً نلتقي في مسار الذكريات، استطيع أن استرجع ذكرياتي وإحساسي في نفس المواقف التي تعيشها هي الآن. “أنا استطيع فهم ابنتي أكثر فهي تصنع ذكرى وأنا استرجعها” أصبحت هذة الفكرة تلازمني لأيام ، كانت سبب خفي للبهجة.

تدور حياتي هذة الأيام حول إيجاد روتين مناسب يسمح لنا أن نعيش حياة متوازنة بين الدراسة والترفية. يدور عقلي في متاهة قوائم لا تنتهي وسعيدة بهذا جداً. أحاول إعادة رسم خطة لمساري المهني الذي مر بتوقف مؤقت، بدأت العمل على مشروع شخصي وابحث عن مهارات جديدة اقضي وقتي في تعلمها. وصاحب كل هذة التغيرات قراري بإلغاء وقت الشاشة لأطفالي خلال أيام الأسبوع والإكتفاء بساعة يومية نهاية الأسبوع. فأضاف هذا مجهوداً ليس يسيراً لاشغالهم. عسى أن يكون هذا المجهود مؤقت حتى يألفون هذا النظام. أما الآن فأنا أشعر وكأنني بهلواني يحاول أن يوازن كراته في وقت واحد، قد ينجح بذلك أو قد تسقط كل الكرات.

قالت صديقة قبل عدة أيام أنها تحب أن تتأمل في حياتها وكيف غيرتها الأمومة من “شخص فرداني” لشخص يعطي كل وقته لأطفاله بحب ولا يبقى لها من يومها ما يكفي. وكشخص “فرداني” سابقاً وقع كلامها موقع عميق في نفسي فأنا ذاك الفتى. كنت شخص مسؤول فقط عن دراسته، حققت أقصى ما يمكن تحقيقه خلال سنواتي الدراسية كلها. حققت المراتب الأولى في الثانوي ثم البكالوريوس ثم الماجستير. كُرمت بأكثر من محفل وسمعت الكثير من التنبؤات عن مستقبلي المهني الحافل. ثم أصبحت أماً ووضعت جل طاقاتي لهم. فأنا أُكثر من التأمل في التفاصيل الدقيقة، جميع حواسي مستيقظه طوال الوقت. تمر علي المواقف اليومية كمشهد سيريالي، أرى المواقف بعيونهم الصغيرة واتصورها كما تتصورها مخيلتهم الكبيرة واسترجعها كذكرى قديمة لهم. يحدث كل هذا في نفس الوقت الذي اعيش به هذة المواقف. لطالما كنت الفتاة ذات الحس العالي لمن حولي ولكن هذا الاحساس تضاعف حتى فاض مني مع أطفالي.

تصحبني الكتب الصوتية هذة الأيام، للتو أنهيت رواية أوراق شمعون المصري مع مجموعة قراء رائعين. تناولت الرواية قصة بني اسرائل مع نبي الله موسى. اعتقد أن القصص بها كثير من الاسرائليات التي لا نصدقها ولا نكذبها. أحببت فيها السرد البسيط الممتع الذي يناسب أيامي المزدحمة. أحاول مصالحة الكتب الورقية هذة الأيام واخترت كتاب الجوع إلى الأمومة. تشرح فيه الكاتبة ما الذي يعانيه الشخص إذا فقد العلاقة مع أمه، أو كنت العلاقة سيئة. تشرح فيه الآثار المترتبة على هذا الفقد وكيف يتم معالجته. ثم تعطي نصائح للأمهات لتجنب هذا الوضع مع أطفالهن. قرأت المقدمة فقط لا اعلم إن كنت أوصي به بعد ولكن الموضوع جيد ويستحق أن يقرأ عنه. واعتقد أنه مناسب لهذة التدوينة، قد أعود لاكتب عنه هنا إذا أنهيته.

سري الصغير: تهويدة

قبل أكثر من ثمانية عشر سنة عرضت على التلفاز حلقة للمسلسل الشهير آنذاك “أهل الغرام” ومن حسن حظي أنها كانت تلك الحلقة. لا أذكر قصتها ولا قصة أبطالها كل ما اذكره منها هو ما سأحاول وصفه الآن، تبدأ الحلقة بمجموعة لقطات تعبر عن ذكريات حميمية بين أم وابنتها. أول ذكرى هي صورة الولادة ثم صورة لأول خطوة للأبنه ثم صورة لأول يوم دراسي لها وهكذا تتابع الذكريات حتى تكبر البنت. وكانت الموسيقى الخلفية أغنية “يلا تنام” لفيروز تُضيف سحر خاص للمشهد.

أثر المشهد عليّ كان جلياً رغم صغر سني وقتها، أحسست بعاطفة قوية تجاه ابنتي التي سأراها للمرة الأولى بعد اثنتي عشر سنة من تلك اللحظة. حفظت التهويدة التي سمعتها ذلك اليوم، أصبحت سري الصغير الذي أخفيه داخل قلبي منتظره بفارغ الصبر لحظة غنائها لابنتي. وبلغ مدى خصوصية هذة التهويدة في قلبي أنني لا أرضى أن أهدي بها أولاد أخوتي كنت أردد لهم التهويدة الشعبية “يا نوم دوخ دوخ بعيون “فلان” نوخ” أغنيها لهم وأنا أضحك طرباً لسر خفي. لذلك كانت لحظة غناء التهويدة “السرية” لابنتي ساحرة جداً، لحظة متخمه بالمشاعر المتراكمة على مدار اثني عشر سنة من الحب والفرح.

اليوم أصبح السر طقساً يومياً نحبه، فأنا اكتب هذة التدوينة بعد أن ناموا أطفالي و ظللت أغنيها لهم أكثر من أربعين دقيقة بلا كلل ولا ملل. ولم يفقدها التكرار سحرها وعذوبتها. ومع كل هذة السنين من التكرار اليومي ابتدعت نسخة خاصة منها، طال التغيركلمات التهويدة الأصلية. احتفظت بالطبع باللحن واستفتاحيتها ” يلا تنام يلا تنام لأهديلك طير الحمام، روح يا حمام لا تصدق بغني للحلو تينام”. أحرص أن تكون تهويدتي الخاصة مليئة بكلمات الحب والعطف. اذكر فيها أسماء أطفالي واتبعها بكلمات تدل على جمال صفاتهم ومدى قرب مكانتهم لي. فأنا اقتنصها كفرصة لتعزيز وتأكيد وتأصيل مدى حبي لهم وإشباعهم به.

قرأت مقالة جميلة عن التهويدة تقول فيها الكاتبة أن الدراسات أثبتت أن تأثير التهويدات لا يقتصر على الأطفال بل يمتد لمقدمي الرعاية أيضاً. بعد يوم طويل من التربية واللعب والرعاية يكون مقدم الرعاية قد ناله من التعب ما ناله. قلق وتوتر وجداول لا تنتهي ثم تأتي لحظة احتضان الطفل وغناء التهويدة ليعم السكون ويهدأ الضجيج. ومفعول التهويدة السحري لا يتم بدون قرب الطفل لأمه ففي أحضانهم الصغيرة يكمن العالم بأسرة، وحاجتنا لتلك الأحضان تعادل حاجتهم لأحضاننا.

تؤمن صديقتي بفعالية هذة الأحضان وتطلق عليها “مضادات الأحزان” وقد قرأت في أحد الكتب ما يثبت ذلك علمياً، اذكر ذلك لأني قمت بمشاركتها صورة من الاقتباس. بل ويوصي الخبراء بأن يكون المعدل الأدنى لعدد الأحضان من ٧ إلى ١٢ حضناً خلال اليوم. لأهميته في الدعم النفسي ولزيادة ذكاء الطفل ونموه الجسدي. فأتت التهويدة كطقس احتفالي يقام في تلك المسافة الضيقة ما بين حضنها وحضنه وبه تختم الأحضان اليومية.

وتعلل الدراسات عن التهويدة وتاريخها وجود الكلمات والقصص الحزينة في بعض التهويدات، أن مقدم الرعاية المرهق نهاية اليوم يُفرغ ما يجول في ذهنه من مخاوف وأفكار في كلمات التهويدة. مثل التهويدة العراقية التي تشكي فيها الأم بعد الزوج المسافر. ثم تؤكد الدراسة أن الكلمات لا تؤثر على فعالية التهويدة على الأطفال لأن ما يعمل على تهدئتهم هو اللحن الذي يسمعه بصوت أمه. أما أنا فلي رائي آخر، إن كانت الكلمات لا تؤثر على عمل التهويدة في تهدئة الاطفال ومساعدتهم على النوم فهي تؤثر بكل تأكيد على وعي الطفل المسكين والرسائل التي تصله من مقدم الرعاية. شتان ما بين طفل ينهي يومه بكلمات حزينة وبين طفل ينهيه وهو ممتلئ بكلمات الحب والثناء بصوت يحبه ويألفه ويثق دائما بأن ما يخبره هو الحق.

بين الشجر والجبل أجد نفسي

عندما يخرج المرء عن مساره وتتشتت أفكاره يلجأ إلى من يعيده للمسار ومن ينفض عنه تراكمات الأيام، أنا تعيدني الشجرة. في مقعدي داخل حديقتي بين أشجاري، يبدأ يخفت ضجيج الأفكار رويدا ًرويداً حتى يختفي. افرغ عقلي وقلبي من كل شيء احيط نفسي بألوان وأشكال الطبيعة حتى اصبح جزءًا منها، خضار الأشجار يحيط بي تتخلله أشعة الشمس الدافئة ويُكمل المشهد لون السماء الصافية. لا توجد كلمات لوصف ما اشعر به في تلك الأثناء لأن واقع تلك اللحظات مفرع تماماً من كل شيء. سكون وهدوء وطمأنينة، فيها يتوقف التسارع المجنون للأيام وتختفي قوائم مهام ممتده لأشهر. يقول موريس ميترلينك:

الأشجار هي الغاية الأساسية التي تمنح المتجول منا القدرة اللازمة على الصمود في وجه الحياة، وهي ما تمنحه الشجاعة، والحيوية، والرزانة والنصر الصامت والمثابرة.

ذكاء الأزهار – موريس ميترلينك

يقصد موريس ميترلينك حياة الشجرة كلها، أن يتدبر اللإنسان في نموها وطريقة تكيفها مع بيئتها وغيره من الحقائق المذهلة عن عالم النبات. يحثنا أن نتعلم ونكتشف ما سبقتنا إليه المخلوقات الحية التي سبقت وجودنا. فهو يؤمن أن كل الموجودات من أدوات وتصاميم اخترعها الإنسان هي في الأصل مؤخوذة من النباتات أو الحيوانات. أما أنا فأميل إلى الجانب الحالم هنا، وجود الشجر بحد ذاته يبعث كل هذا الشعور ويحثنا على عبادة التأمل في صنع الخالق تبارك وتعالى. فأنا أحيط نفسي بالأشجار الداخلية والخارجية.

اؤمن بتأثير الطبيعة على الأشخاص من مختلف البيئات، طبيعة مدينتي الأم جبلية كبرت وأنا انظر للجبل في كل حين. عند التنزة و عند التنقل داخل المدينة بل حتى من بيتي أراه شامخاً كل وقت. لذلك كان الانتقال إلى مدينة كبيرة خالية من الجبال أمر مربك في البداية. كنت لا أولي الأمر أهمية حتى قرأت أن هاروكي يخالجه نفس الشعور عند افتقاده الماء. اذكر في الفترة التي رافقت بداية انتقالي سألني شخص مقرب كيف لك أن تعيشي لفترة طويلة دون رؤية جبال؟ دهشت من السؤال لأني لم افكر بالأمر على هذا النحو أبداً. ما الذي سيتغير في حياتي بفقداني منظر الجبال المحيطة بمدينتي؟ هل المفقود هو الألفة التي صاحبتنا في نشأتنا؟ أم أنها الشعورالذي يبعثه المنظر المهيب لتلك التراكمات الحجرية الراسية؟ ما ماهية الشيء الذي يرشح مني أنا وهاروكي؟

رؤية كثير من الماء مثل هذا كل يوم هي بلا شك أمر مهم … لشخص واحد: أنا. فإن مر علي وقت دون رؤية الماء أشعر أن شيئاً يرشح مني ببطء. … وربما كان لنشأتي قرب البحر علاقة بذلك.

ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري – هاروكي موراكامي

قالت لي صديقتي عن تجربة القيادة في مدينتنا الأم، أن الجبال تشعرها دائماً أن هنالك مفاجأة سارة خلفها. تشبة قيادتها ورؤيتها للجبال أمامها في حياتها فهي تسعى جاهدة فيها دون توقف وتردد سوف أمضي قدماً حتى أبلغ هذا الجبل وأرى ما خلفه. أما أنا فلا انظر إليه بأنه نقطة بلوغ أو وصول لهدف أراه آمان يحيط بنا وثبات يحث عزيمتنا.

ومن منطلق بنت الجبل فأنا لا أشعر بتأثير البحر الذي أقرأ واسمع عنه، فهو يثير في نفسي القليل من الهدوء والكثير من الخوف. لذلك فكرة الذهاب في رحلة كروز أمر لا استطيعه لأنني اعلم أن معظم الوقت سأكون في حالة تأهب وخوف. قد يكون السبب هو الاختلاف الجوهري بين الجبل والبحر، فالجبل ثابت على مدار آلاف السنين بينما البحر لا يؤتمن في تقلباته وأمواجه فهو اليوم ليس كالبارحة. كنت قد أنهيت قبل عدة أسابيع كتاب دموع الملح لبيترو بارتولو و ليديا تيلوتا مما أكد لي سبب خوفي من البحر، البحر في قصص الطبيب كان بوابة أمل مواربة. قد تفتح لك على مصراعيها وتنتشلك من جوع وموت وتنقلك إلى عالم آخر وقد تنغلق عليك وتبتلعك وترسلك إلى العالم الآخر، أو أسوأ من ذلك قد تبتلع كل فرد من عائلتك أمامك وتقذف بك وحيداً خارجها.

وقد يكون الاختلاف الذي فرق بين البحر والجبل هو المتشابهة بين الشجر والجبل مما وضعهما في مكانة متساوية عندي. فثبات الشجر مشابهة لثبات الجبل وإن تغيرت أحوالها خلال السنة فتغيراتها معروفه بل منتظره. وقد يكون هذا ما ابحث عنه في الجبال والأشجار عند خروجي عن المسار، لأن في تلك الأثناء اكون قد فقدت عنصر الثبات في حياتي فأسعى إلى ثبات من نوع آخر. أسعى إلى أن أعود إلى بعد فيزيائي ثابت أتيته في مختلف أحوالي ووجدته كما هو.

ماذا عنكم؟ ما هو عنصر الثبات في حياتكم؟

ما العلاقة بين عودة النشرات البريدية وزيادة الأصنام؟

قرأت قبل فترة عن ازدياد عدد مستخدمي التواصل الاجتماعي الذين يفضلون المشاهدة بدلاً من العرض -الأصنام-. وقد رُشحت عدة أسباب لذلك منها اتقاء تنمر المجهولين واستحالت المحتوى المعروض إلى محتوى “مصنع” مما أفقد وسائل التواصل الاجتماعي طابعها العفوي. كما أن استخدامنا لهذة المنصات لأكثر من عقد من الزمن أثبت لنا حقيقة نعرفها جميعاً عدا أننا لم نتخيل عواقبها وهي حقيقة أن الانترنت لا ينسى. وأن تأثير غياب الهوية الحقيقية قد يحول الشخص إلى كومة شر متقده.

كما أن الخوارزميات التي تستخدمها هذة البرامج مثل تيك توك وfor you في تطبيق X و Reels في انستقرام و shorts في يوتيوب جميعها تعتمد على جذب المستخدم لأطول وقت ممكن. أي انها تركز على استهداف المستخدم كمشاهد أكثر من استهدافه كعارض. وعيب هذة الخوارزميات أنها تجلب لك الغث والسمين، تتيح لك تخيل أن لديك السيطرة ولو بشكل جزئي على ما يتم عرضه عليك من خلال الضغط على خيار “غير مهتم” لكن الحقيقة مختلفة تماماً. ينجذب إليها الشخص في البداية ثم ينتهي به المطاف إلى تخمه معرفية قمامية للأسف. وتكمن الخطورة هنا أن الشخص في الغالب سيأخذ هذة المعلومات كمسلمات بدون تعريضها لمصفاته النقدية. ومع مرور الوقت تهتز القاعدة المعرفية التي يرجع إليها عند الحكم على الأشياء، تبعاً لقاعدة المألوف التي شرحها الدكتور محمد الحاجي في بودكاست آدم. يرعبني تخيل ما الذي سيحدث لأولادنا مع تعرضهم المستمر لمجموعة من العروض التي لا تتناسب مع ديننا ولا قيمنا الاسلامية والمجتمعية، أنى لهم قاعدة ينطلقون منها عند نقدهم لأفكار جديدة؟ كما يرعبني التفكير فينا نحن كمقدمي رعاية لهم في المقام الأول. كيف دُرب فكرنا ليكون مناسب لطبيعة هذة المنصات، سطحي وسريع.

الفطن هنا من ينتبه لنفسه ويراجع مصادره المعرفية لأنها ستكون أول ما يخرج من فمه عندما يتحدث. منذ بداية وسائل التواصل الاجتماعي احرص على القيام بـ”ديتوكس” منها بعد مدة معينة، لأني كنت أعي ما تحدثه في نفسي. أحرص على تصفية المتابعين كلما أحسست أن الزمام قد انفرط وبدأ يصدر مني ما لا أرتضيه عن نفسي. أُرجع الأمر دائما إلى ما أشاهد وما أقرأ. من الحلول المقترحة تخصيص وقت معين لتطبيقات التواصل الاجتماعي، أي ربطها ببعض عاداتك اليومية لكيلا تكون أول ما تفعله عند فراغك لأنك ستضطر إلى تركها عند الانتهاء مما تفعل بعكس حالة الفراغ التي قد تفقد معها الشعور بالوقت. ساعدتني ميزة App Limits في تحديد وقت للتطبيقات، صحيح أنه من السهل تجاوزها ولكنها تعطي إشعار بتجاوزك الحد مما يضفي شعور من الضغط وعدم الراحة أثناء تصفحك. الجدير بالذكر أن الدراسات تؤكد أن أقصى مدة للتعرض السليم للانترنت بكل وسائلة هي 30 دقيقة في اليوم! أي مدة تتجاوزها تعتبر تهديد صريح لسلامتنا النفسية.

لكن السؤال هنا في خضم كل هذة الوسائل التي تعطي الانسان الرقمي إحساس زائف بالانشغال والتخمة المعرفية، ما سبب رواج النشرات البريدية من جديد؟ وهل خطورتها مثل خطورة وسائل التواصل الاجتماعي؟

  • طريقة العرض

لم يكتفي الانسان الرقمي بكون المحتوى يعرض عليه تباعاً دون أدنى مجهود لاختياره بل بعضهم يُطالب بحل “مشكلة” التنقل بين المقاطع -أي سحبها لأعلى- لأنه يؤمن أن هذا جهداً لا يستطيعه، وأيده الكثيرون! وهذة أحد الميزات في النشرات البريدية، تكون محددة الفقرات أو ذات فقرة واحدة قصيرة مما يسهل على المستخدم قراءة محتوى منوع دون الحاجة الفعلية بالتنقل بين الفقرات.

  • عودة الصنم

كان الصنم في بداية التواصل الاجتماعي وصمة عار لا يرضاها المستخدم عن نفسه، ارتبطت دائما بالمراقب الخفي. ومع التحولات الكثيرة التي طرأت على هذة الوسائل اختلف معها تعريف الصنم. فبات هو المشاهد الذي يحرص العارض أو صانع المحتوى على جذب اهتمامه لنمو أرباحه. ومع ازدياد أعدادهم أتت النشرات البريدية مثالية تماماً لهذا النوع من المستخدمين، كل ما عليه فعله هو الاشتراك أو إلغاء الاشتراك في هذة النشرات.

  • التلهف والانتظار

النشرة البريدية تحقق لنا التلهف والانتظار للمحتوى المقروء الذي فقدناه. على العكس من ذلك، للمحتوى المرئي والمسموع قنواته التي ما زالت تعطي هذا الإحساس. مثل البودكاست واليوتيوب وغيرها من القنوات التي تعرض المحتوى في أوقات محددة.

  • المحتوى

النشرة البريدية تخرجنا من فقاعة المعلومات التي تحاصرنا فيها خوازميات وسائل التواصل الحالية. نشترك في نشرة بريدية مختصه في محتوى نحبه ونعلم أننا سنجد فيه ما نحب وما نكره، ما يعجبنا وما لا يعجبنا، أي سنجد التنوع الطبيعي للأفكار.

لذلك أراهن عليها وعلى المدونات -بعد الله- في أن تعيد للإنسان الرقمي قدرته على النفس الطويل للغوص في أعماق الكتب.