أرشيف الكاتب: داليا

هل قراءة الكتب هروب حقيقي أم مبالغة قارئ محب؟

لم تكن لي القراءة يوماً عملاً سهلاً فأنا أجهز نفسي للقراءة كل مرة، أحدد وقت خاص لها لكن بدون طقوس فأنا لا اشرب الشاي أو القهوة وأنا أقرأ ولا اختار مكان محدد. هي فقط مهمة أحب أن أنجزها أياً كان ما أقرأ سواءً عند قراءتي الأكاديمية أو قراءتي الحرة. مع ذلك فقد تعرضت في كثير من الأحيان لحبسة القارئ. أطول مدة توقفت فيها عن القراءة كانت بعد زواجي مباشرة امتدت لسنة كاملة إلا بعض الكتب البسيطة. لذا عندما يصور أحداً كتابه في شهر العسل أرى أنه ضرباً من جنون لا افهمه. كما كنت إلى وقت قريب لا افهم من يقرأ ليهرب حتى اضطررت لذلك في السنة الماضية واستمر معي حتى اليوم.

عندما اتعرض لضغوطات كثيرة لا استطيع فصل نفسي عنها بل أُملأُ بها حتى أفيض منها. أُمسك الكتاب وأقرأ سطور لا افهم منها شيء أرى واقعي يتشكل أمامي ويخنقني. كنت لا اعلم كيف استخدم القراءة للهروب حتى حوصرت -فيزيائياً- في طريق سفر طويل فما كان مني إلا أن اخرجت كتاباً من شنطتي وشرعت في قراءته. اذكر تلك اللحظة تماماً استعرضها أمامي الآن بامتنان صادق لأنها فتحت لي باب القراءة للهرب. أُلغي كل ما حولي ومن حولي انغمست في الكتاب تماماً. لذلك أنا مدينه لهذا الموقف ما حييت لأني ما لبثت أن استخدمت هذة الحيلة الرائعة معظم الوقت. لقد اكتشفت السر!

من حساب الأستاذ عبدالله الوهيبي في انستقرام

وهذا لأن القراءة للهروب تصدق معها نية القارئ على التركيز التام مع المادة المقروءة فتنشط مناطق من الدماغ تتوافق مع ما تقرأه من مشاعر وأفكار. مما يحقق لك الاندماج مع ما تقرأ والانفصال عن واقعك أي هروبك منه. وهذا نتيجة دراسة أجريت في القرن الثامن عشر لعالمة أدب ومجموعة من علماء الأعصاب قرأتها سابقاً في كتاب أيها القارئ: عُد إلى وطنك لماريان وولف. الجدير بالذكر هنا أن القراءة في هذة الدراسة كانت تشمل القراءة “عن كثب” والقراءة للتسلية فقط. لذا هروبك مثبت علمياً بأنه حقيقي وليس مبالغة محبين القراءة. فعند تركيزك تشعر بكل ما تقرأ مثل أن تنشط المنطقة المسؤولة عن الملمس عند قراءة استعارات عن الملمس وكذلك نشاط الخلايا العصبية الحركية عند القراءة عن الحركة كما جاء بالدراسة. في المرة القادمة عند التقاطك لكتاب ما حاول أن تستحضر تركيزك التام وراقب ما يحدث.

مع أن الضغوط لا تتلاشى بكتاب جميل لكن من المريح أن يكون مفتاح الهروب في جيبك دائماً. وهنا تبرز أهمية الكتاب الالكتروني أكثر من الورقي، إذ قد تضطر أحياناً لعزلة بين مجموعة من الأشخاص يثير فضولهم دائما منظر الكتاب الورقي ويبدأون في طرح اسئلة تعيدك لواقعك وتقطع تركيزك. الكتاب الالكتروني يوفر عليك عناء الإجابات على هذة الأسئلة. كما أن الانشغلال بالهاتف يكون مقبولاً في بعض السيناريوات أكثر من إنشغالك بالكتاب ذلك لأن من الممكن أن يستخدم أحداً هاتفه من وقت لآخر على العكس من ذلك من النادر أن يخرج أحداً كتابه فجأة لتصفحه. هذة بعض الكتب التي قد تتوفر نسخ الكترونية لها مناسبة للهروب:

لا تجعل من صاحبك اسفنجة

أنتم سروري وأنتم مشتكى حزني
وأنتــم فـي ســواد الليل ســماري
أنتــم وإن بعــــدت عني منــازلكـم
نــوازل بـيــن إســراري وتــذكــاري
الله جــــــاركـــــم ممــــا أحـــــاذره
فيكم وحبي لكم من هجركم جاري

شاهدت مؤخراً حلقة الدكتورة هبة في بودكاست فنجان مع ثمانية. ذكرت فيها دراسة عن مدى تأثير التعاسة الزوجية على جمال المرأة. أجريت الدراسة على مجموعة من السيدات المتزوجات وجدوا فيها أن مجموعة النساء التي تتحدث عن مشاكلها الزوجية مع “مجموعة دعم” لم يتأثر شكلهم الخارجي مع مرور الزمن والعكس حدث مع المجموعة التي تضمر في نفسها. حيث بدأت أكبر بالعمر وتشتكي من مختلف الآلام والأمراض. واستشهدت الدكتورة بحديث أم زرع على وجود هذا النوع من مجموعات الدعم في وقت سابق -وان اختلف شكله-.

أؤيد هذة الفلسفة كوسيلة للتعامل مع المشاعر التي تعصف بنا في بعض الأوقات. أراها كوسيلة نستخدمها مثل أن نستخدم الكتابة لذلك. وهي قد تعزز من أواصر العلاقات وقد تهدمها، فلسفتي فيها هي أن نسدد ونقارب. وانصح بقراءة كتاب “ربما عليك أن تكلم أحدا” لأنه يشرح هذة الوسيلة وكيفية استخدامها بكفاءة. ولكن أنا ضد أن تتحول مجموعتي الداعمة -وغالباً صديقتي- لإسفنجة وظيفتها فقط امتصاص مشاعري السلبية.

تمر الصداقة بعدة مراحل أولها مرحلة البدايات وحماس التعرف على علاقات جديدة. تتسم بطابع المرح والفضول والكثير من القصص التي تنتظر منا أن نرويها. ثم المرحلة التي تليها مباشرة هي مرحلة التآلف وهي المرحلة التي لابد أن تحدث لاستمرار علاقة الصداقة. تتسم هذة المرحلة باكتشاف نقاط مشتركة مثل الاهتمامات أو الأفكار أو المرجعيات الاجتماعية وغيرها. ما يهمنا من هذة المراحل هي مرحلة متقدمة قد تصلها بعض الصداقات، أطلقت عليها مرحلة الاسفنجة. أن تكون مهمة صديقتك الوحيدة هي امتصاص طاقتك السلبية وقد يكون الأمر بالتبادل أحياناً. أن يكون صديقك هو معالجك النفسي الغير مختص. هذة المرحلة تضع حمل ثقيل على طرف الاسفنجة في العلاقة. فهو يحتار بين رغبته بتقديم المساعدة والأذن الصاغية وبين جهله بطرق معالجة هذا الكم الهائل من المشاعر السلبية التي تجتاحه. وقد يقدم مشوره تضع صديقه في مزيد من المشاكل.

هذة المرحلة هي مفترق طرق، إذا كان الصديق المستاء أناني بما يكفي لتجاهله عمداً بمدى الضرر الذي يسببه كلامه على صديقه الاسفنجة فهو من البداية لا يأخذ هذة العلاقة على وضع متكافئ. على الاسفنجة أن يحدد وضع صديقه ثم يتعامل معه بناءً على ذلك. وقد تختلف هذة الحالات بتباين الشخصيات والأوضاع مثل:

  • جهل الصديق المستاء بمدى تأثير كلامه على صديقه الاسفنجة، هنا من حق الصديق أن يعلم. على الاسفنجة أن يتكلم مع صاحبه بصراحة تامة. أن يبين له عن استعداده التام لسماع الشكوى وبمدى تأثيرها عليه وأن يبين أنها تقع في نفسه هذا الموقع لرفعه مكانة صديقه عنده. فهو لا يتملل منه بل يريد أن يضع هذة الشكوى في قالب يناسب الطرفين.
  • ضعف شخصية الاسفنجة وعدم قدرتها على المصارحة، قد يضطره ذلك لاستخدام الحيل للخروج من وضعية الصديق الاسفنجة.
  • انتهاء المنفعة من هذة الصداقة حيث قامت ببدايتها على وجة تشابه انتهى، مثل مكان عمل واحد. عندها استحالت هذة العلاقة إلى مكب تفريغ لا أكثر. هنا الأفضل للطرفين أن تنتهي هذة الصداقة مع حفظ العشرة والأيام الجميلة بينهم.

على أن انوه أن المقصود بالصديق المستاء في هذة التدوينة هو شخص سليم لم يتم تشخيصه بأحد الأمراض النفسية ويشعر أنه في دائرة مظلومية يتخيلها. الصديق الذي يرفض كل الحلول المقترحة للخروج من هذة الدائرة. الذي يستمتع بشعور الشفقة والنقص، الذي لا يرى النعم المحيطه به ويركز على النقص في حياته. الصديق الذي يستمر في هذة الدائرة سنين طويلة لا يريد الخروج منها وإن حلت مشكلة يخترع مكانها مشاكل أخرى ليضل بهذة الدائرة.

أما الصديق الذي يمر عليه طيف الاستياء ويشتكي لصديقه فهذا لا ينطبق عليه أياً مما سبق. فنحن بأصدقائنا نتحمل أقدار الحياة وتقلبات الزمان.

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواســيـك أو يسلــيك أو يتـوجــع

آمل أن لا تكون التدوينة سبب لنهاية صداقات قديمة بل سبب في تصحيح مسارها. قرأت مرة أننا في كل علاقة صداقة نقسم جزء من روحنا لهذا الصديق نشاركه همومنا وأفراحنا وأفكارنا وطموحاتنا ونرى العالم بنظرة وسطية بين ما يراه وما نراه. نستودعه هذا الجزء ونمضي وعندما تمر علينا ليالي عجاف نقابل أصدقائنا ثم يُستدعى هذا الجزء من روحنا ليعيدنا إلى المسارالصحيح. هذة العلاقة السامية لا ينبغى أن تدمرها اسفنجة.

بصحبة ايزابيل وفاطمه وماثيو ومحمد

لم أنهي تحدي القراءة هذا العام، وضعت رقماً لا بأس به مقارنة بقراءاتي العام المنصرم ووضعت خطة جيدة لتحقيق الهدف. ولكني بدأت السنة برواية الحرب والسلم ثم تبعتها برواية الدرويش والموت مما أدى إلى تشبعي لفترة من الزمن، ثم توقفي عن القراءة إلا في بعض الأوقات. الآن أرى مكتبتي المليئة بالكتب أمامي ولكن رغبتي في التقاط احدها والبدء فيه معدومه. في العادة عند حدوث أمر مماثل أقرأ روايات لتُحسن مرونتي ثم اشرع بقراءة الكتب الثقيلة نسبياً -بما يناسب مستواي القرائي- لكن هذة المرة من أشبعني هي الروايات نفسها. افكر أن اخرج من هذا التوقف بقراءة مجموعة قصص قصيرة لغسان كنفاني بنسخة PDF على هاتفي الذي بدأت أميل أنه السبب الحقيقي وراء هذا الهبوط في الإنجاز. افكر بالقراءة على أنها هروب من الواقع والتقاط ما يمكن التقاطه لتحسين جوانب حياتي، عندما بدأت استخدام هاتفي للقراءة افتقدت هذا الهروب. فأنا أُمسك واقعي -الافتراضي- بيدي مما يعني أن التواصل مفتوح. لذا الخطوة الأولى ستكون العودة إلى الكندل.

جربت بالأمس أن اخرج من البيت بدون انترنت، كانت تجربة جميلة لم اشعر بالممل بالطبع لأنني برفقه أطفالي مع أن وقت الانتظار كان طويلاً. أفتقد هذا الشعور بين فترة وأخرى فأنا متصله بالانترنت على مدار اليوم، حتى أثناء عملي لبعض الأنشطة مثل الطبخ أو المشي أو التسوق الإلكتروني. اشتركت في يوتيوب بريميوم ليتسنى لي تشغيل المقاطع الصوتية في الخلفية. أصبحت أول خطوة بديهية لأي شيء أريد عمله هي أن ابحث عن مقطع صوتي طوله يتناسب تقريباً مع ذلك النشاط. أريد أن أقنن من هذة العادة قدر المستطاع لأدع “مخي يتنفس” أشعر به يختنق بكم هائل من المعلومات التي لا يحتاجها. لكن لا أخفي أنني استمتع ببعض الحلقات وأعيد الاستماع لها أكثر من مرة، سأضع قائمة بهذة الحلقات في نهاية التدوينة.

وبالعودة للقراءة فقد ارتبطت هذة السنة بما قرأت أكثر من السنوات السابقة، اعتقد لأن نقل الألم والمعناة هو الطابع السائد لهذة الكتب. مثل باولا لايزابيل اللندي و أنا قادم أيها الضوء لمحمد أبو الغيط و أقفاص فارغة لفاطمة قنديل و كتاب ماثيو بيري -بما انني أحدى أشد المتابعين للسلسلة الشهيرة-. تميزت هذة الكتب بنقل التجربة الإنسانية الخام ما بين ألم المرض ومحاولة الصمود والعيش. يتفق الكتاب الأول والثالث بأن المريض شخص غير الكاتب في الأول ابنتها وفي الآخر المريضة أمها. أي أن هذة الكتب تتكلم عن مشاعر وصراعات الشخص المرافق للمريض وعجزه عن تقديم المساعدة. أسلوب الكاتبتين رائع على اختلافه يجمعه استشعاري بحضورهن، أي أنني أشعر ان الكاتبه تحدثني كصديقتها المقربة. في حالة ايزابيل كانت الأمومة تدفعها للتشبث ببصيص أمل لا يوجد. كانت مؤمنة بانتصار باولا على مرضها كانت تتمسك بها بشدة تسترجعها من ذكرياتها دائماً. بينما الابنة فاطمة تدفعها حاجه أمها إلى الرعاية والواجب الذي يحتم عليها ذلك بعد تخلي أخوها عن الرعاية. في كل الكتابين اذكر تماماً مشهد الموت، لابنة ايزابيل وأم فاطمة، استسلام الكاتبتين والهدوء بعد التيقن بموتهم. هذا المشهد الذي لم يروى بطبيعة الحال في الكتابين الآخرين.

في الكتاب الثاني والأخير الراوي هو المريض نفسه، يحكي معاناته الشخصية مع المرض وشتان ما بين الكتابين. تشاندلر بنق هو شخصيتي المفضلة في السلسلة ثم بعده مباشرة فيبي بوفيه. تعاطفت مع خبر وفاة الممثل مما دفعني مباشرة لقراءة كتابه الذي ادهشني وجعلني انظر لماثيو نظرة مختلفة. شخصية انهزاميه لا مسؤولة يضع العبء على غيره ليخفف من ثقل فشله. صحيح أنه حاول تصحيح مساره في نهاية حياته لكن لا تزال ترسبات شخصيته القديمة تظهر بين الكلمات. لذلك شتان ما بينه وبين محمد أبو الغوط. أنا قادم أيها الضوء كتاب بدايته أمل ونهايته استسلام لقدر حتمي، توافقت تطورات مرضه لتطورات نظرته وتعامله مع هذا المرض. عرفت محمد أبو الغوط عندما انتشر خبر وفاته، قرأت المنشورات الموجودة في حسابه مباشرة ثم توقفت عن القراءة حيث انتظر طباعة وبيع الكتاب. الكتاب رائع كله ولكن الفصول الأخيرة المخصصه لزوجته وابنه ووالديه من الفصول التي تعلق بالذاكرة وقت طويل.

قد يجادل البعض بعبثيه القراءة لمثل هذة الكتب وتعريض الشخص نفسه للمشاعر الثقيلة نوعاً ما والذي يمكنه تجنبها. جوابي الشخصي هو تفضيلي لهذا النوع على بقية التصنيفات، فأنا مفتونه في التجربة الإنسانية أياً كانت. أحب كتب السيرة الذاتية وأرى قوة الشخص عند اعترافه بضعفه البشري أمام الناس بلا خجل. في كثير من المواقف التي تمر عليّ استحضر تلك الشخصيات أمامي واتذكر قول لها عندما تعرضت لمواقف مشابهه. قراءة هذا النوع من الكتب يعطى مدى أوسع لرؤيتك، وزيادة قابليتك لتفهم الشخص الآخر دون أن يصف ما يشعر به.

هذة قائمة حلقات رائعة استمتعت بها:

بين سحر التفاصيل الصغيرة ولعنتها

حين اشرع في كتابة تدوينة جديدة عني استحضر دائماً ما قاله أحمد أمين في مقدمة كتابه “حياتي”:

لم أتهيب شيئًا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب. فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض أو غيري الموصوف وأنا الواصف، وأما هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق. أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه.
ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إن النفس إما أن تغلو في تقدير ذاتها فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ في تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها. وإما أن تغمطها حقها ويحملها حب العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكل ما يأتي منها؛ أما أن تقف من نفسها موقف القاضي العادل، والحكم النزيه، فمطلب عز حتى على الفلاسفة والحكماء.
ثم إن حديث الإنسان عن نفسه — عادة — بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثريًا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح، وفي هذا المديح دلالة على التسامح والتعالي من القائل، ومدعاة للاشمئزاز والنفور من القارئ والسامع. ولذلك لا يستساغ الحديث عن النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة.

من الصعب جداً أن أتكلم عما يختلج في نفسي. أصدق فيما أقول ولا أقول كل الصدق، فان أنا عرضت بعضه افكر في العواقب دائماً، ثم ما الفائدة المرجوه من نشرها؟ قد يكون تخفيف من عبء بعض الأفكار والتخلص لو فرضياً من ثقلها. وقد يكون نشر للتجارب الإنسانية للمؤازرة والإحساس باننا سواء على اختلافنا.

بالأمس سقطت في ضعفي البشري من جديد، لا استطيع الافصاح عن تفاصيل الحادثة لكن عزائي أنها مرت سريعاً دون أن أبحر عميقاً في تساؤلات لا جدوى لها. تعصف بي تلك الأفكار من جديد وأنا امسك مذكرتي الجديدة لعام 2024 م لأضع لها الخطوط العامة ليسهل انتقالي إليها في العام المقبل. ما الفائدة من كل هذا؟ اعيش حياة لا تشبهني ولا اعلم طريقة أخرى للوصول لما أريد، عراقيل تفوق قدرتي على تجاوزها ومزيداً من الاستسلام والضعف والعجزوالكثير من البكاء والخوف. اتنبه من تلك الحالة لأشكر الله على ما وهبني في حياتي وعلى ما أنعم به عليّ في سنواتي السالفة ولكن قلبي مثقل.

في هذة الأوقات دائماً احاول النظر في التفاصيل الصغيرة لأن جزءاً مني يُوقن أن الحياة تكمن في تلك التفاصيل. هل انتظاري لموائمة الظروف هو خطة محكمه أم محاولة سيطرة فاشلة. لدي الكثير من النظريات التي أؤمن بها والتي تخرجني نظرياً مما أنا فيه واعلم أنها طريق الراحة، ولكن تطبيقها أصعب من تحريك جبل من مكانه. أعود بين الفينة والأخرى واتسأل عن قراراتي، أهذا ذكاء مني أم غباء؟ اعيش بالرضا حيناً وبالضعف حيناً آخر.

كتبت ما كتبت وأنا افكر في هوية تدوينتي هذة، عن ماذا أريد أن اكتب وأيقنت آخيراً أن الارتجال هو ما استطيعه الآن. هذا التفصيل الصغير يستغرق من وقتي الكثير من التفكير والتخطيط. البحث عن الكمال في كل التفاصيل هو مقبرة الكثير من خططي ورؤيتي لما أريد الوصول إليه، ومعه تقتل متعة التجارب الجديدة. مؤخراً فقط استطعت التغلب على هذا الموضوع جزئياً وتقدمت خطوات بسيطة في ذلك. اطلقت مشروع واحد وفشل، حاولت أن اطلق أكثر من مشروع ثم أوقفهن في مرحلة التخطيط لأني لا اعلم كيف اوصله لمرحلة الكمال. أظن أن هذا هو هدفي القادم، القفز إلى تجارب جديدة دون تخطيط. قد اضعها في سلسة من التدوينات هنا.

من هذة التجارب مثلاً بدأت اتعلم بعض الأطباق التقليدية لأنني أريد لعائلتي الصغيرة أن تحضى بوجبة دافئة في برد الشتاء. في الآونة الأخيرة تغيرت ذائقتي أصبحت لا أحبذ الطبخ الحديث بالصوصات مثل كريمة الطبخ، لا استشعر الدفء فيها. لم أكن يوماً من محبات الطبخ ولم أجربه قبل الزواج -ما عدا الحلويات والكعك بالطبع- لكن الأمومة تدفعني لعمل شيء لا ارغبه بحب لأجل فقط أن اسمع “لذيذ يا ماما” بأصواتهم. وبدأت بـ”المرقوق” كانت ناجحة بنسبة 75%، اللحم ناضج تماماً الخضار مستوى استوائها مناسب لكني لم أتقن التكنيك في وضع رقائق العجين مما أدرى إلى التصاق بعضها. لكن المهم هو الطعم الشهي الذي وصلت إليه، وتذوق ابنتي للخضار بشهية لأول مرة. كانت من أعظم نجاحتي الأسبوع الماضي. الطبق القادم طبق خاص بمدينتي الأم، ازداد حماس كل يوم لتجربة طبخه.

مع اقتراب نهاية السنة أعيد التفكير بطريقة كتابة الأهداف وطريقة إنجازها وقياسها، لأني أصبحت مؤخراً أقيس إنجازي بالتفاصيل الصغيرة التي نغفل عنها غالباً لأن أعيننا تنظر للهدف النهائي متناسين كل ما حوله. ليس لدي أي فكرة حتى الآن عن الاستراتيجية الجديدة ولكن سأحاول ما بوسعي لمحاولة إيجاد طرق لتطبيقها. كنت قد كتبت عن الأجندة التي استخدمها وطريقتي فيها هنا لمن يريد الاطلاع عليها.

بيتنا أم بيت أهلي؟

المكان: بيت أهلي، في غرفتي
الزمان: 30 سبتمبر، بداية العصر

النافذة مفتوحه تداعب ستائرها نسمات الخريف اللطيفة. وأنا هنا على الأرض أمامي حقيبتي سفر، ألملم فيهن أغراضنا -أنا وطفلي- المبعثره بأقصى سرعة لأغتنم الدقائق المتبقية مع أهلي. لا أعلم ما اعتراني في اللحظات التالية، شعور انتقال آني ذهب بي بعيدًا في الماضي. في لحظات فقط أحسست بأني أنا في الزمان السالف، أنا التي كنت اسكن هذا البيت ولست أنا من آتيته زائرة. تآمرت عليّ هبوب النسمات اللطيفة مع أشعة الشمس المنتشرة في الغرفة فجالت بي للحظات ثم أعادتني مع بقايا شعور بالحنين تضاعف حتى انفجرت دموعي وظلت تسكب حتى صالة الانتظار في المطار.
اعرف شعور الحنين لذكريات في الماضي ولكن هذة اللحظة كانت مختلفة، كأنني أعدت عيش إحساس لحظة قديمة من جديد فتضاربت مشاعري ما بين حنين إلى ماضي لن يعود وسعادة بعودة شعور حميم.
لا أبالغ عندما أقول أن جزء من سعادتي في زياراتي العائلية هي العودة للبيت نفسه، الجدران، و الأثاث، والغرف، والساحة الخارجية، والأشجار التي تحيط به من كل جانب. أحرص في كل مرة على إعادة بعث روتين قديم وهو الخروج بعد صلاة الفجر وحدي في الساحة الخارجية، اعيش اللحظات بكل تفاصيلها كالأصوات والروائح والوجود بحد ذاته على هذة البقعة المحببه إلى قلبي. لا اؤمن بـ “نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول” ولكني مؤمنة تماما بـ “كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل” هكذا كان وهكذا سيكون دائما.
لا اعلم متى بدأت اسميه “بيت أهلي” بدال “بيتنا” حيث لا يزال جزء صغير داخلي يحاول مقاومة هذا الأسم فجوارحي كلها تسميه بيتنا. يعز علي أن كلمة بيتنا أصبحت ترمز إلى موطن آخر مع أني احبه ولكنه ليس “أول منزل”. قد يبدو ما اقوله حالماً أو انني اعيش حالة رومانسية مع طوب و”اسمنت” وأنا لا انكر هذا أبداً ولا استغربه. أحب هذا البيت وأحب العود إليه مراراً وأحب زرع هذا الحب في أطفالي. فحماس العودة له والولوج من بابه كان شعوري وحدى في السنة الأولى ثم تلت السنوات بعدها وأصبحنا ثلاثة أشخاص -أنا وأطفالي- ندخل من نفس الباب بنفس الحماس والسعادة.

كعكة العصر امتدادًا لطقوس أمهاتنا

أي فترات اليوم هي المفضلة لديكم؟ كنت سابقاً أجاوب على هذا السؤال مباشرة وبدون تردد أن فترة الصباح هي الوقت المفضل لدي. رائحة الصباح، وجبة إفطار لذيذة أفكر فيها قبل النوم ليزداد حماسي للإستيقاظ، وبداية يوم جديد. حتى غيرتني الأمومة في هذا الجانب كما غيرتني في جوانب عده وأصبحت أرى أن كل وقت هو وقت يستحق الإحتفاء به وبطقوسه الخاصة.

الصباح وشعور البدايات:

لطالما كنت أحب البدايات في كل شيء، يشتعل حماسي لحظة اتخاذ قرار معين والتجهيز له والإنطلاق بسرعة عالية ثم ما ألبث حتى أبدأ تدريجياً بالهدوء والاستمرار عليه بتوازن والعودة للبحث عن بدايات جديدة. في البدايات فرصة جديدة للتصحيح والعودة باستعداد أفضل بفضل ما تعلمته من الدروس السابقة، في البدايات حماس التجربة الجديدة والتعرف على بيئة مختلفة والنظر عن قرب لتنوع العالم وتنوع المجالات فيه. أحب البدء في كتاب جديد، أول رفرفات لجنين ينمو، حماس الموظف أو الطالب الجديد، تحضير مقادير طبخة مفضلة أو وصفة جديدة، الهبوط في مطار جديد ووجهة جديدة، ومثل ذلك كثير.

مازلت أحب الصباح مع أنه اصبح أكثر ازدحاماً مع طفلة تخطو سنواتها الأولى في التعليم وطفل دارج -كما يُسمى في المصطلح العلمي-. لم يمضى سوى أسبوع ونصف منذ بداية العام الدراسي الجديد ولم يأخذ صباحي شكلاً واضحاً بعد، أصبحت مسؤولة عن طفلي الدارج فقط بالإضافة إلى العمل على مشروع والتخطيط لمشروعيين آخرين. عند الاستعداد للذهاب للمدرسة أحب أن أضع أذكار الصباح للأطفال ليساعد ابنتي على الحفظ والترديد خصوصًا ان المدرسة ليست بعيدة بما يكفي لنسمعه في السيارة.

الظهر وموعد الأحبة:

أما الظهر فهو موعد عودة طفلتي وعودة الحياة لمنزلي الصغير، ما بين الذهاب لإحضارها ومحاولة معرفة أحداث يومها متع ومسرات صغيرة. جربت الأسئلة التي وضعها مختصين للأطفال وانبهرت من سرعة إستجابتها والحماس الذي أبدته والذي قابله برود تام وتجاهل عند سؤالي نفس السؤال ولكن بأسلوبي أنا! يقول المختصون لا تسأل سؤالاً عاماً مثل “كيف كان يومك؟” أو “ما الذي حدث اليوم؟” حاول أن تجعل سؤالك مفصلاً ودقيقاً ليجاوب طفلك ويستجيب معك مثل “ما أكثر شيء جعلك تضحك اليوم؟” أو “من الذي ساعدك اليوم؟” وهكذا سيبدأ الطفل بالاستجابة و قص الأحداث المرتبطة بسؤالك وقد يتذكر أحداثاً أكثر يقصها أيضًا عليك.

العصر ورائحة الكعك:

أحب رائحة الكعك في المنزل لأنه مرتبط عندي بذكريات عزيزة، ,اريد أن اصنع لأطفالي ذكريات كتلك. فأعدت إحياء هذا الطقس امتدادًا لحنان أمهات التسعينات الميلادية وما قبل. نحب كعك البرتقال و كعك الفراولة والكريمة البيضاء وأحاول أن اعيد طقوس قديمة مثل إعطاء أطفالي أداتي الخفق ليأكلوا ما تبقى. استطيع أن اتصور تلك الأيام أمامي الآن وأنا انهي بقايا الكريمة اللذيذة. وبالطبع لا ننسى الكعكة الرخامية بتموجات الشكولاته والفانيلا، ولكن الكعكة المفضلة عندنا هي خبز الموز.

كل من يعرفني يتعجب عند معرفة أن الموز هو فاكهتي المفضلة أنا وطفلي الاثنين. نستهلك الموز بشكل يومي ونادراً ما يفسد عندنا الموز أو ينضج تماماً. عندما ينضج الموز يكون كطقس احتفالي لأننا موعودين بخبز الموز الشهي والذي يشترط نضج الموز ليزداد طعمه حلاوة. اتبع فيه وصفة أروى العمراني ولكن استبدلت الزبدة العادية بالزبدة البنية التي نقلت الطبق لعالم مختلف وأضيف مع الخليط قطع من اللوز لإضافة قرمشه لذيذة. بعد استخدام الزبدة البنية لم استطع أن اعدها بطريقتها الأساسية مرة أخرى. ولنستفيد من وقت انتظارهم أثناء أدائي لمهام صعبة على الصغيرين نستخدم جهاز عدنان معلم القرآن لمراجعة السور أو حفظ سورة جديدة، لاحظت حماس ابنتي للحفظ والترديد ازداد عندما اصبح روتيناً ارتبط مع نشاط الطبخ المشترك. وهكذا أصبح للعصر طقس محبب لي ولأطفالي.

المغرب والعشاء ما بين العمل والاسترخاء:

المغرب قصير جداً ووقته مزدحم بالكثير من المهام مثل الصباح، إعداد العشاء ثم تناولة والتهيئة للنوم. أجهز وجبة الـ lunch box وأعد ما يمكن إعداده ليحفظ لي بعض الوقت في الصباح. ثم بعدها كما يقولون -ولا اتفق معهم فيه- هو وقت الأم الخاص. أفضل أن اسرق لي بعض الأوقات خلال اليوم واطوع مهامي على وقت أطفالي. علمتني الأمومة إدارة المهام والوقت كما لم يعلمني إياه شيئاً من قبل.

الآن عندما أُسأل أي فترات اليوم هي المفضلة لدي؟ أجاوب كلها، وكل واحدة تزيدني حماس لما بعدها. ماذا عنكم؟ أي الفترات تحبون؟ وهل عندكم طقوس مختلفة لكل واحدة منها؟

ما معنى حياتي؟ وما معنى كل هذا؟

قد يكتب الله عليك أمرًا كنت تظن أنه لن يحصل لك أبدًا، تظن جهلًا منك أن هذة القصص تصيب الناس حولك فقط وليس أنت. تسمع بها تتعوذ من شرور تقلب الأحوال والأقدار وتمضي. حتى يحدث لك أمرًا يستدعي منك التوقف ثم تعلم أنك عبد من عباد الله ماضي عليك حكم الله كما هو ماضي عليهم. المثل المشهور عن الكأس نصف الممتلئ وتقسيم الناس لمتفائل ومتشائم بناءً على أي جزء من الكأس وقع نظر الشخص عليه يثبت أن هناك جانبين في كل كأس وفي كل قصة. أرفض رؤية جانب واحد على الأخر، هناك جوانب متعدده يجب أن نراها جميعها ولا نهملها لنستطيع أن نحكم على الأحداث حكم صائب ونعيش بواقعية. وهذا يقودنا إلى تقبل ما قد يحدث مستقبلاً ونجهز أنفسنا لذلك. أقول هذا وأنا أخشى القرارات لأنني أحب أن اعرف عواقب الأمور وأخاف من إنقلاب الأحوال، أحب الروتين وأخشى التغير. وكأنني أحصن نفسي بهذا من الأذى ولكن هيهات قدرك سيصيبك شيئت أم أبيت. علمت أن عليّ أن أربي نفسي على تقبل ما كتبه الله لي. أن اختار الرضا كرمًا وحبًا وعلمًا واعلم يقينًا أن في هذا الأمر خيرة لي لا اعرفها. وتربية النفس هذة تبدأ من قبل وقوع الحدث لأن ردة فعل الإنسان عند المصائب تنبع من إيمانه واختلاف ردات فعل الناس للمصائب تأتي من اختلاف أساس يرتكزون عليه لذلك “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”.

جهلاً من الإنسان رأى الموضوع من جانب آخر وأراد أن يتحكم بقدره. اعلم أن المصاب كالغريق يتمسك في أي قطعة خشب يراها ولكن هوس التحكم في الأقدار وجذب ما يريد الشخص ما هو إلا ضرب من جنون. المسلم العاقل المتدبر لكتاب الله يعلم أن خير البشر نفى عن نفسه القدرة على ذلك فأين هو من خير البشر! قال الله تعالى “قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ“. هذة قاعدة يجب أن يأصلها المسلم في نفسه، لا يملك من أمره شيء إنما الأمر كله بيد الله ذو الجلال والإكرام.

ومن جهله أيضًا أنه يظن بنفسه القدره على استجلاب الخير واستحقاقه التام والغير قابل للشك في ذلك الخير، ورد الشر الذي يرأى أنه لا يستحقه عن نفسه! وكأن الابتلاء شر محض وقد قال الله تعالى “ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” وما هو إلا سنة من سنن الله في الخلق. ومن شروط هذا الإستحقاق أن يؤكد على نفسه كل يوم بتمام قدرته واستطاعته على الاعتماد عليها فقط -أي على نفسه- في ذلك! ويستطيع الإنسان الفطين أن يرى أننا في الأذكار نستعيذ من هذة النفس مرتين في اليوم كل يوم “أعوذ بك من شر نفسي” و “ولا تكلني لنفسي طرفة عين”. فأي استحقاق يتكلمون عنه، استحقاق يورد النفس مورد الهلاك والشر. ويظن أن العيش لا يحتمل إلا بوجود معنى لحياته! فلسفة غربية اتفهم سبب نشؤها بالغرب وانتشارها واستغرب من محاولة الإنسان المسلم أن يطبقها على حياته.

معنى حياتك كمسلم أن تعبد الله وأن تعمر الأرض بما يرضي الله، قال تعالى “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” الصلاة والذكر وقراءة القرآن هي كل من يهم في يومك كمسلم وهي الأساس، وأن ترعى الله في أمورك الدنيوية كإنجاز مهني أو دراسي. وليس العكس، أي أن نجعل الإنجاز والاحتفاء به مقدم على الطاعات والصلاة والأذكار وفي الحديث الصحيح “من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ” وهذا ما يربى عليه النشء. أن دينه دين كامل، يعلمه ويؤدبه ويسن له أسلوب حياة متوافقه من فطرته. ما بين أوامر ونواهي وابتلاءات واختبارات حتى يلقى ربه. وكم من حمل سيسقط وراحة بال سيستأنس بها إن تعلم الإنسان حدوده وأدرك يقينًا سبب وجوده وعرف أولوياته وعاش وفقًا لذلك كله.

كل ما كتبت كان خلاصة بحث وتجربة وقراءة، ومحاولة مستمره لتربية وتهذيب نفسي. قرأت كثيراً في فلسفة معنى الحياة وأرشح كتاب الأستاذ عبدالله الوهيبي “معنى الحياة في العالم الحديث”.

منتصف يونيو

“تمر عليك أيام تتنفس من ثقب إبرة، مهمام متراكمة ومهام جديدة، وتمر بك أيام أقصى ما تحتار فيه هو لون الورد الذي تشتريه! والثانية زادٌ للأولى.”

يخطر ببالي كثيرا هذا الاقتباس من الرائعة نوف اليحيى، وأيامي هذة هي من الأيام الأولى. خُطط كثيرة وأيام مليئة بقوائم مهام طويلة أقوم بافراغها وإعادة ملؤها. وفي منتصف إنشغالي اسرق بعض الوقت لدرويش يحكي لي حكايته وأتوه معه في أفكاره، يحكي لي عن كل شيء. عن حياة الدراويش والعتبة عن أخيه ومصيبته، عن أبيه الطيب، عن صديقه الغريب، وعن إسحاق. عند قرائتك لرواية الدرويش والموت عليك الإستعداد للدخول في التفكير المفرط للشخصية الرئيسية للرواية. لم انتهي منها إلى الآن فلا استطيع أن احكم عليها حكم عادل ولكني متأكدة أن العمود الأساسي في بناء هذة الرواية كان التفكير المفرط (Overthinking).

أكثر ما يشدني في الروايات هي الشخصيات، وتركيبها وتعقيدها وحروبها الداخلية ومحاولة السيطرة على مشاعرها ومحاولة قراءة العالم من حولها. لذلك أحببت الدرويش لأنه صادق في وصف نفسه والتعبير عن أفكاره لا اعلم ما انتهى عليه ولكني انتظر. أحبببت بيير في الحرب والسلم وأندريه وناتاشا وماريه ونيقولا، لأنها شخصيات تطورت ولم أحب صونيا مثلاً. أظن انني لا زلت أعيش في رواية الحرب والسلم مع أني انهيتها في مارس تقريباً. وقد أخذت من وقتي بكل كتبها الأربعة مثل الوقت الذي أخذه مني نصف حكايا الدرويش! يوماً ما سأكتب تدوينه مفصله عنها.

ترتيب المكتبة كان من ضمن المهام لدي البارحة، عندما أحضر زوجي مجموعته من الكتب القديمة، اضطررت أن أعزل له صف كامل في مكتبتي وأقسمه حسب مجالات قراءته. انتهزت الفرصة لأُخرج مجموعة من الكتب لبيعها، وهذة أول تجربة لي في بيع الكتب. سأحكي لكم التفاصيل إذا قبلت عرض المشتري وأتممت عملية البيع. اعتقد أن سوق الكتب المستعملة بدأ يصبح رائج مؤخراً فالكثير من المتاجر الالكترونية للكتب المستعملة بدأت تمارس نشاطها التجاري. أتمنى أن تزدهر وتنجح هذة التجارة فلا مانع لدي من بيع كتب أصبحت لا تلائمني واتيح المجال لكتب جديدة.

لا أعلم كيف انتهى بي المطاف بالحديث عن الكتب والمكتبة، ولكنه منتهى حديثي غالباً. فكرت أن تكون تدوينة خفيفة سريعة ولا أريد أن أنهيها بدون توصيات، فعلمت أن خير ما أوصي به هو أول ما ابتدأت به. أنصحكم بمتابعة نوف اليحيى تقدم محتوى مختلف مدهش، محامية ومتحدثه رائعة وذات عقل وحكمه. توصي بكتب رائعة وأماكن بيع قهوة جيدة، وتبحث عن ألذ ماتشا في الرياض. والآن العودة لقائمتي.

ضياء وإنطفاء

تتبدل الأيام وتتبدل أحولنا معها نتقلب بين حماس مشتعل وإنطفاء تام. قرأت قبل فترة تغريدة يتسأل صاحبها عن حقيقة وجود ضوء آخر النفق؟ فكانت إجابتي أننا نترقب الضوء في مكان خاطيء، الضوء بداخلنا لا بآخر النفق. وأؤمن أنه تعبير حقيقي وليس مجازي، بداخل كلاً منا سراج يضي له عتم الليالي والأيام الكالحة.

طبيعي أن تمر أيام نشتعل فيها ضياءً ننهي قائمة المهام اليومية ونعرج على المهام المؤجلة، نشعر بأن يومنا رائع ولو كان مليء بالصعوبات، بل نراها تحديات تزيدنا حماس. نُبدع في رؤية النعم المحيطة بنا، نمتلي فيها ضياءً و نعكسه على من حولنا. ثم تمر علينا أيام لا نستطيع فيها إشعال السراج فضلا عن انطفائه في المقام الأول. تكون الأيام معها صعبة ثقيلة لا نرى شيء على حقيقته، لا نرى شيئاً أبداً كل ما حولنا غارق في عتمة الظلام.

عند الإنطفاء كنت أجزع من الوضع الذي صرت إليه، أحارب بكل قوتي لإشعال السراج مجددا فأصبح أنا الفتيل الذي يحترق. دائما تفشل محاولاتي وتتفتت كآخر قطعة من فتيل اعتاد الإشتعال. فتطول مدة إنطفائي وإن عدت تكون عودتي بحماس أقل. حتى صرت أرى بوضوح لحظات انطفائي وضيائي أراه أمامي كرسم بياني بين صعود وهبوط. لاحظته أول مرة عند تقليبي لمفكرتي في قسم المراجعة نهاية كل شهر ميلادي، وهو عبارة عن مجموعة من الأسئلة التي تتكرر كل شهر. تعلمت أنه كلما اشتد بي الضياء لزمتني أيام إنطفاء بعده ثم تعاود الكره مرات عدة. تعلمت أن لا أجزع عند انطفائي ولا أحارب المشاعر التي تجتاحني وقتها مثل الخمول والكسل لأني اعلم أنها تمثل نقطة إنطلاق جديدة.

الخروج من هذة الأيام يتطلب منا شجاعة اختيار الإنطفاء، يقتضى الأمر أن نستسلم فقط، ولا يعد الاستسلام هنا هزيمة بل بداية لانتصارات كبرى ومواجهة أقوى. فلماذا نخاف من الإنطفاء؟ هي مرحلة نريح فيها المحرك، هي مرحلة التزود بالوقود، مرحلة اكتشاف الذات والإنغماس في ملذات خاصة. وقد يكون هذا حافز رائع لمن يريد أن ينطفي للمرة الأولى، اكتشف وقودك. اسأل نفسك مالذي يساعد على إشعال فتيلك مرة أخرى؟ والقاعدة الرائعة هنا أن لكل منا وقود مختلف لسراجه، قد يكون وقت تقضيه مع العائلة أو قراءة كتاب أو الرسم أو طبخة جديدة أو التنظيف أو أعمال يدوية. اسمح لنفسك بالإنطفاء، اكتشف ذاتك وانغمس في ملذاتك.

ما بين الإهمال وفرط التربية

الكل يطمح أن يكون طفله الأول على الصف، وموهوب، وذكي، ورياضي، وقارئ، ومفوه، وحافظ للقرآن، وذا دين وأخلاق حسنة… الخ من الصفات التي لا يمكن أن يتصف بها شخص واحد لأن الكمال صفة إلهية. مع ذلك فإن هذا الهدف الغير واقعي هو هدف الكثير من الآباء والأمهات. ويجتهدون في تنفيذه إلى أن يصل بهم الحال إلى حالة شائعة عند خبراء التربية قرأتها في أحد الكتب وهي “فرط الأبوة والأمومة” أو Helicopter Parenting وكان لهذا المصطلح وقع خاص علي، أنا الأم لطفلين عمرهما أقل من خمسة سنوات. هذة الحالة هي فرط الاهتمام بالطفل وفرط التحكم بجميع جوانب حياته بهدف الحصول على أبناء مثاليين من الناحية الصحية والنفسية وذو إنجازات أكاديمية وعلى المدى البعيد إنجازات مهنية أيضاً. واحدة من سماتها المميزة أنها لا تقبل أخطاء الطفل وهذا يتنافى مع طبيعتنا البشرية حيث تعد الأخطاء جزء مهم من العملية التعليمية. شُغلت بهذا المطلح منذ قرأته أول مرة، وأردت أن اعرف كيف لفرط الاهتمام أن يؤثر بالطفل؟ وكيف يقارن أثر فرط الاهتمام بالإهمال وكيف أعرف إن كانت تنطبق عليّ هذة الحالة؟

لا أحد يستطيع إلقاء اللوم على الأهالي لأن هناك عوامل كثيرة تؤدي إلى تبني هذا الهدف الغير واقعي. المجتمع أصبح مجتمع إستهلاكي رأسمالي، يحث الأهالي على تحسين فرص الوظائف لأطفالهم! وهذا مثال مُشاهد غير مبالغ فيه. أحد المَشاهد مثلاً تعلم اللغة الإنجليزية قبل تعلم اللغة العربية لأن -بحسب نظر الأهالي- ستكون المنافسة في المستقبل على الوظائف أشد ضراوة منها الآن واللغة الانجليزية مطلب أساسي. التضخم في المعلومات التربوية في جميع قنوات التواصل الاجتماعي من أخصائيين وغير أخصائيين كذلك. سهولة مقارنة الأطفال ببعضهم البعض مع اختلاف خلفياتهم التعليمية والاجتماعية، مما يدفع الأهالي إلى مزيد من الاهتمام والرعاية وجدولة الكثير من النشاطات للطفل ونقصد هنا الإفراط فيها. وكأن الفراغ والملل أمر مهدد لمستقبل الطفل مع أنه على العكس تماماً، يزيد من قدرة الطفل الابداعية باختراع ألعاب تملى عليه وقت فراغه. كما أن المقارنة لا تقتصر على الأطفال فقط بل يقارن الوالدين بعضهم ببعض ويخافون من فشلهم في تحقيق أهدافهم المرجوه من الطفل. كل هذة الأسباب أدت إلى نشأة مصطلح فرط التربية.

عند بحثي عن هذا المصطلح اكتشفت أن علماء التربية قد قسموا التربية إلى أربعة أقسام كما يتضح في الصورة أعلاه، وهي مقسمه كسلسة من الأنواع تبدأ بالصرامة الشديدة وتنتهي بالاهمال التام. وهي مفصله كالآتي:

  • التربية السلطوية (Authoritative): وهي التي تفرض سيطرة الوالدين على الأبناء على جميع جوانب حياتهم وتأمل من الطفل تحقيق إنجازات عالية، وتهتم بإنجازات الطفل أكثر من مشاعره. قد ينتج من هذة التربية أبناء مطيعين ذو إنتاج أكاديمي مبهر ولكن في مقابل هذة النتائج تتأثر علاقة الأولاد بوالديهم، ويعانون من القلق، والخوف من الفشل، وضعف في مهاراتهم الاجتماعية.
  • التربية الحازمة (Authoritarian): وهي التربية العادلة التي من خلالها يستطيع الطفل أن يتواصل مع والديه بطريقة إيجابية لأنها تهتم بمشاعر الطفل مع ذلك هي لا تهمل الحدود المفروضه على الطفل فتتعامل مع اخطائه بحزم. ينتج من هذة التربية أطفال ذو ثقة عالية بالنفس، ومهارات اجتماعية ممتازة، وعلاقة وثيقة مع الوالدين أُسست من الصغر.
  • التربية المتساهلة (Permissive): هم أصدقاء أبنائهم ليس هناك حدود للطفل، ولا تتعامل مع أخطائهم بشدة فهي تهتم لمشاعر الطفل أكثر من اهتمامها بتقويم سلوكه. ينتج من هذة التربية أطفال غير مسؤولين، لا إنجازات أكاديمية تذكر، لا رادع لهم ولا أساس يلتجؤون إليه للتحقق من صواب أفعالهم.
  • التربية المهملة (Uninvolved): يوفرون حاجات الأطفال الأساسية مثل المأكل والمسكن ويهملون جميع الجوانب الأخرى. لا يأملون من أطفالهم أي شيء ولا يفكرون كثيراً في ذلك. ينتج من هذة التربية -وإن صح تسميتها تربية- أطفال بأمراض نفسية، ولديهم نقص في الثقة والأمان، ضعف مستوياتهم الأكاديمية، غير مسؤولين، علاقاتهم الإجتماعية سيئة.

وقد اتفق علماء التربية على أن التربية الحازمة هي أفضل الأنواع، وقد تختلف التربية لكل طفل عن الأخر في العائلة الواحدة وذلك لعدة عوامل أهمها الحماس في البداية، الثقافة والإطلاع، الخبرة، كثرت المسؤوليات.. الخ.

ولكن ما علاقة ذلك بفرط التربية؟ وأين هو من هذة الأنواع؟ فرط التربية لا يتعارض مع أياً منها -ما عدا التربية المهملة طبعاً لإنعدام وجود الاهتمام من الأساس- بل يكون عامل إضافي يختلف باختلاف الأهداف. فمثلاً فرط التربية في التربية السلطوية والحازمة تعني أن الوالدين يعملون جاهدأ أن يحصل الطفل على ما يردونه هم ويضعون أهدافاً ويمضون قدماً لتحقيقها. أما التربية المتساهلة فهم من يعملون جاهداً لكي يحصل الطفل على ما أراده هو. وفي كل الحالات يتدخل الأباء بشكل مفرط يؤدي إلى إنقلاب أهدافهم تماماً وفساد الطفل. ومن آثار الإفراط في التربية كما وصفتها مقالة قرأتها:

  • نقص الثقة وقل تقديرالذات.
  • غير قادر على التكيف مع التغيرات.
  • قلق.
  • شعور عالي بالاستحقاق.
  • جاهلين في المهارات الأساسية الحياتية.

نتائج مخيفة قد تختلف عن نتائج الاهمال ولكنها تتشابة من ناحية أنها نتائج غير مرضية وأطفال غير سعيدين. الحل برأي المختصيين أن نجعل الطفل يتعلم من اخطائه أن نجعله يعاني من نتائج قراراته أن نجعله يؤدي المهام التي يسمح له عمره بالقيام بها ونصبر عليه إلى أن يُتمها ويتقنها. علينا أن لا نتدخل دائما بل نختار الأمور التي نتدخل بها بعناية وهي الأمور التي تساعده على النمو واكتساب مهارات تفيده لا تقيده. بالنهاية أرى أن الخيار الأنسب والذي يجب أن نضع نصب أعيننا عليه هو خيار التربية الحازمة العادلة مع إعطاء أبنائنا مساحة لأباس بها من حرية تفيدهم لا أن تفسدهم.

As parents, we have a very difficult job. We need to keep one eye on our children now—their stressors, strengths, and emotions—and one eye on the adults we are trying to raise. Getting them from here to there involves some suffering, for our kids as well as for us

Dr. Gilboa

مصادر: