أرشيف التصنيف: أمومة وتربية

حياة مليئة بالتوقفات والمشاريع غير المكتمله

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}

قبل أيام أتمت ابنتي سبع سنوات وفق التقويم الهجري، اخبرتها بذلك وعبرت لها عن حماسي الشديد لنصلي معًا كل يوم. لا اعلم ما الفتوى في ذلك وهل يجب عليها أن تصلي جميع الصلوات أم ان التكليف يكون عند بلوغها. ولكن قرأت قبل فتره أن من سبع سنوات إلى عشر سنوات هي فترة التدريب لتلتزم بأداء الصلوات وحدها. لذلك بدأنا ببعض الصلوات وليس كلها. هدفي في هذة المرحلة تحبيبها في الصلاة وحرصها لتلبية النداء عند الآذان، أما اتقان الصلاة فهي تعرف أركانها ولكنها لا تتقنها بصوره كاملة. لا مشكلة سيكون معنا ثلاث سنوات نتدرب حتى تتقنها.

هل ذكرت لكم أن أطفالي يهذبونني في التربية أكثر من تهذيبي لهم؟

تجبرني الأمومة على الخروج من منطقة راحتي. أما المدارس والعلاقات الاجتماعية تختبر مبادئي في التربية. أدركت في الفترة الآخيرة أن بعض المشاكل التي تحدث مع أطفالي يكون حلها في تغير طباعي والتخلي عن بعض المعتقدات التي تحتاج إلى مدينة فاضلة لتطبيقها. نحن غير مثاليين وسنربي أطفالًا غير مثاليين في عالم غير مثالي، سعينا المستميت لتطبيق الأفكار التربوبية المثالية مرهق وغير عملي في بعض الأحيان. من الحكمة التنازل وموازنة الأمور.

قيل لي أن الامتيازات للعائلة المغتربة أكثر من العائلة المستقرة مع “جماعتهم” في نفس المدينة، فهم يستطيعون السيطرة على أولادهم فالقوانين واضحة والتدخلات معدومه، و مقارنة الأقران مصطلح يسمعون به ولا يعيشونه. ألغيت الأطراف الخارجية ولكن الجانب الاجتماعي كله ألغي معها. لن تنتبه الأم لذلك في عمر الطفل المبكر، حتى يبدأ يتفاعل طفلها مع من حوله. يجب على الأم هنا أن تدرك أن مجتمع أطفالها سيكون من مسؤوليتها وحدها فيجب عليها أن تبني علاقات اجتماعية لتكون صداقات طفولة لهم.

كذلك عند عودتهم لأهلهم واجتماعهم مع أقرانهم ستلاحظ فجوة في العلاقات قد تكبر كلما ازدادوا بالعمر خصوصًا اذا كانت بين الأقران لقاءات اسبوعية وهذا طبيعي جدًا. ولحسن الحظ أنها من المشاكل التي تستطيع أن تتفادها مبكرًا لذا وجب على الأم أن تحرص على التواصل اليومي أو شبة اليومي بينهم خصوصًا من خلال الاتصالات المرئية. أما الخروج من المنزل بشكل يومي للحدائق فهو ضروري وليس رفاهية، لأنها تخلق تفاعلات مع المجتمع الخارجي لا يمكن لنا تعويضها في البيت. وقد تعوضهم جزئيًا عن التفاعلات التي تفتقدها العائلة المغتربة البعيدة عن أهلها.

أما أنا فعلى غيري عادتي السنوية لم ابتع هذا العام أجندة،ولعل الخيرة في هذا الموضوع هو اكتشافي أن شراءها كل سنة لم يكن هدرًا للمال. بدأت حياتي في غاية العشوائية، تبدو المهام عائمة في عقلي! افتقدت القوائم المرتبة. حاولت كثيراً أن انتقل للأجندة الالكترونية، ولكن في كل مرة اضطر لاستعمال ورقة خارجية لأرتبها في البداية قبل أن اسجلها الكتروني! لذا اتجهت للبحث مجددًا عن أجندة جديدة، أحب Passion Palnner واستعملتها أربع سنوات متتالية ولكن حياتي الآن أهدأ وأبسط من تقسيماتها الكثيرة.

لا افك أن اذكر لمن حولي أنني أعاني من حبسه القارئ، آخر كتاب قراءته كان إعادة قراءة لكتاب قديم مع مجموعة قرائيه! أحاول العودة بشتى الطرق اشتركت مع مجموعتين في نفس الوقت بمبلغ مادي لإضافة دافع للقراءة، ولكني لا استطيع أن انهي الكتاب. لدي الآن أكثر من خمسة عشر كتاب معلقًا لم أقرأ منه سوى بضع صفحات. اعترتني هذة الحبسة منذ أكثر من سنة ولا أزال حبيستها. غير أنها لم تطل رغبتي في شراء الكثير من الكتب فتراكمت الكتب الجديدة في مكتبتي وكأنها تتهكم علي. عزائي في هذا أنني لم أتوقف عن القراءة لأطفالي أبدًا فكان لهم نصيب الأسد من معرض الكتاب هذا العام. أحب قراءة واستعراض قصص الأطفال وهذة من الجوانب التي لم أكن اتخيل أن اهتم بها قبل الأمومة. لا تختلف هذة المشاعر عن ما نحس به حين نتصفح كتب لأنفسنا. أقرأها وأرى إن كانت تناسب قيم الدين الاسلامي وقيم المجتمع وعائلتنا الصغيرة. ابحث عن الكتب التي تستعرض المشاكل التي نتعرض لها ثم اسألهم عن منظورهم للقصة وما هو رأيهم بتصرف البطل. بعض القصص لا يعجبني تصرفه فأقرأها لهم وأبين أن هذا التصرف خاطيء ونحاول أن نجد حلول بديله. أحب هذا الوقت جدًا وأضع أمام عيني أن هذة كلها ذكرياتهم وأن هذا ما سيبقى مني لهم بعد فترة من الزمن فأحاول أن أحسن.

قد تكون الحبسه هي سبب انقطاعي هنا كلما أكثرت من القراءة كلما زاد مخزوني وزادت رغبتي في التعبير. كما أن هذة الأيام تبدو فيها فكرة العيش وممارسة الحياة الطبيعة ضربًا من جنون، لا يحتمله قلب لا يؤمن بقضاء الله وقدره. مشاعري غدت أشبه بأفعوانية، لا اعلم ما ينتظرني في كل لحظه. تاره اقوم بواجباتي بحزم وتاره بعطف وحنو، أقفز كالمجنونة بين عدة أمور اتخذتها لنفسي وما ألبث حتى اترك كل شيء وانسحب ببطء لفراشي؛ حين تعتريني نوبة بكاء أعلم سببها. وهذا ما ينخر قلبي ويضعف قواي انني لا أملك من الأمر شيء سوى التسليم لقضاء الله وقدره. ثم احاول أن اكمل يومي كما كنت ولكني اقف في كل لحظة واتسأل: هل ما يحدث حقيقي فعلاً!

كتبت هذة التدوينة كمصافحة اعتذار، سأحاول جاهده العودة مجددًا. ادعوا لأحبابي بالصحة والشفاء ولأولادي بالصلاح والهداية.

تأملات في رواية نعاس لـ هاروكي موراكامي

بعد كتابة تدوينتي السابقة فكرت كثيراً في كتاب قراءته قبل سنتين وهو رواية “نعاس” للكاتب هاروكي موراكامي. اتذكر عند البدء بقرائتها لم أجد فيها ما يجذبني حقاً. وقعت عليها صدفة وكنت أنوي منذ زمن البدء بقراءة روايات الكاتب الياباني الشهير. وكانت النعاس أول مصافحه بيننا. الكتاب صغير جداً لا يتجاوز ال 90 صفحة قرأته في جلسة واحدة، ولم يكن حجم الكتاب السبب الوحيد لذلك. اندمجت مع الشخصية الرئيسية التي فقدت القدرة على النوم بشكل مفاجئ. كنت مشدوهه بتلك الفكرة وفكرة القدرة على استغلال جميع ثواني حياتك لفعل ما تريد. حتى وصلت نهاية الكتاب وأظن أنني استطعت أن افهم رمزية الرواية.

اتذكربعد أن أنهيتها توجهت مباشرة إلى تطبيق قودريدز على هاتفي لكتابة مراجعة* عن الكتاب. كنت أتمنى أن أوصل أفكاري ومشاعري في تلك اللحظة وكانت هذة المراجعة:

لعلي وجدت روايتي المفضلة!

على مدى سنوات قراءاتي كلها لم تمسني رواية بشكل شخصي كما مستني هذة الرواية ❤️ ولعلي وجدت سبب لمحبي هاروكي موراكامي.


هنا في النعاس الأمر أعمق بكثير من امرأة فقدت النعاس والقدرة على النوم. هنا في النعاس وجدت امرأة اختارت طريق الأمومة والزواج وانغمست في مسؤولياتهم إلى أن نست نفسها في سبيل نجاح وراحة أسرتها الصغيرة. ولكنها حافظت ممارسة الرياضة التي كانت تمارسها بحب قبل أن تلتزم بتلك المسؤوليات. فساعدتها الرياضة في إعادة الصلة بنفسها القديمة. وهذا دليل مهم على أن الشخص الذي رأته في الكابوس وكان السبب في فقدها القدرة على النوم كان بالحقيقة هي نفسها. ولمن لم يقرأ الرواية، البطلة قد رأت في الحلم أن “عجوزًا يرتدي لبس رياضي” يسكب عليها ماء لا ينضب من إناءه الفخاري. والماء هنا هو رمزية للوقت الذي زاد بأيامها واتسعت فيه حياتها عندما فقدت القدرة على النوم فاستفادت من كل تلك الساعات المهدرة بالنوم. وقد ذكر هاروكي في الرواية منام صديقتها التي فسرته بالقلق ونلاحظ وجود “العجوز” كدلالة به على صاحب المنام .

ولعلي هنا أميل إلى أن النعاس والنوم لم يكن الوضع الفسيولوجي الطبيعي، بل كانت غفلة تعيشها البطلة ثم تنبهت منها بعد الكابوس. اتسعت حياتها وأعطت نفسها حقها وأحبتها وقد ذكرت ذلك البطلة في الكتاب. فالأم في وقت من الأوقات قد تفقد نفسها بكثرة المسؤوليات وبتقديم أفراد عائلتها على نفسها. في الرواية وبعد اتساع حياة البطلة واكتسابها الوقت الذي كانت تقضية في النوم لممارسة ما تحب، لم تتأثر مسؤولياتها كأم وزوجة في بداية الأمر. لم يتغير شيء. لكن فقدان النعاس وفقدان القدرة على النوم هو أمر غير طبيعي، ففي النهاية تمكن منها النعاس واستسلمت له. وذلك بعد أن جلست في سيارتها وحيدة ثم قام شخصان بهز السيارة حتى وقعت في النوم. هنا ربطت بين الشخصين ومسؤولياتها كأم وزوجة. أي أن هذة المسؤوليات تمكنت من هز كيانها كامرأة مثلما هز الشخصان السيارة مما أدى إلى عودتها تدريجيًا إلى النعاس والغفوة. الجدير بالذكر أن البطلة كانت تقاوم وبذلت الأسباب كيلا تنام ثم استسلمت في الأخير.

قرأت هذا الكتاب وخرجت منه بهذة النظرة وأنا أرى أن الأمومة والتربية من أمتع وأصعب المسؤوليات التي التزمت بها في حياتي. قولي أن الرواية مستني بشكل شخصي لا أعني به نظرة سلبية عن الزواج والأمومة.على العكس تماماً فأنا أرى أن الحنين إلى نفسك القديمة هو تطور طبيعي ولحظة إدراك من الأم بطبيعة المسؤوليات الجديدة الملقاه على عاتقها. بالمناسبة أنت تتعلم إدارة هذة المسؤوليات بالخبرة. بدون خبرة أنت لا تملك أي فكرة عما يحدث حولك مهما كنت مستعدًا قبل ولادة طفلك، مما يضاعف شعور التية والقلق. اذكر عند كتابة هذة التدوينة كانت ابنتي تتم عامها الأول وكنت أمر بلحظة التية هذة.

لذلك عزيزتي الأم الجديدة التائهة لا تقلقي.

__________________________________________

* قمت ببعض التعديلات لتناسب من لم يقرأ الرواية.

حياة خلف الكواليس

هذة الأيام أعيش مع ابنتي تجربة الطالبة المستجدة، تدرس الآن في أولى ابتدائي. خلال تبضعنا قبل بداية المدارس عشت اللحظات من منظورها هي ومنظور والدتي، أتذكر شعوري عندما كنت في عمرها. لا استرق منها لحظاتها ولم اتكلم عن تجربتي أمامها. بل اصف ما اعيشه خلف كواليس حياتها، أرى في نظراتها الحماس والخوف والترقب وبشكل غريب استطاعت ذاكرتي أن تسترجع كل أحداث أول يوم دراسي لي. أراني في ابنتي وأرى والدتي فيني. ولم استغرب هذا الشعور فقد بدأت أشعر به منذ بدأت تعبرعن نفسها، ولكنه جلياً وقوياً هذة الأيام. لا اعلم ما السبب في ذلك. هل لحبي الشديد للمدرسة علاقة؟ أم أن ذكرياتي مع والدتي كلها عن المدرسة؟

بعد نهاية الأسبوع التمهيدي وخلال أول يوم دراسي حقيقي لها صفت في الطابور لأول مرة عندها اجتاحتني نوبة بكاء. سعيدة جداً لأجل ابنتي وعرفت أخيراً سبب قوة هذا الشعور. ها نحن أخيراً نلتقي في مسار الذكريات، استطيع أن استرجع ذكرياتي وإحساسي في نفس المواقف التي تعيشها هي الآن. “أنا استطيع فهم ابنتي أكثر فهي تصنع ذكرى وأنا استرجعها” أصبحت هذة الفكرة تلازمني لأيام ، كانت سبب خفي للبهجة.

تدور حياتي هذة الأيام حول إيجاد روتين مناسب يسمح لنا أن نعيش حياة متوازنة بين الدراسة والترفية. يدور عقلي في متاهة قوائم لا تنتهي وسعيدة بهذا جداً. أحاول إعادة رسم خطة لمساري المهني الذي مر بتوقف مؤقت، بدأت العمل على مشروع شخصي وابحث عن مهارات جديدة اقضي وقتي في تعلمها. وصاحب كل هذة التغيرات قراري بإلغاء وقت الشاشة لأطفالي خلال أيام الأسبوع والإكتفاء بساعة يومية نهاية الأسبوع. فأضاف هذا مجهوداً ليس يسيراً لاشغالهم. عسى أن يكون هذا المجهود مؤقت حتى يألفون هذا النظام. أما الآن فأنا أشعر وكأنني بهلواني يحاول أن يوازن كراته في وقت واحد، قد ينجح بذلك أو قد تسقط كل الكرات.

قالت صديقة قبل عدة أيام أنها تحب أن تتأمل في حياتها وكيف غيرتها الأمومة من “شخص فرداني” لشخص يعطي كل وقته لأطفاله بحب ولا يبقى لها من يومها ما يكفي. وكشخص “فرداني” سابقاً وقع كلامها موقع عميق في نفسي فأنا ذاك الفتى. كنت شخص مسؤول فقط عن دراسته، حققت أقصى ما يمكن تحقيقه خلال سنواتي الدراسية كلها. حققت المراتب الأولى في الثانوي ثم البكالوريوس ثم الماجستير. كُرمت بأكثر من محفل وسمعت الكثير من التنبؤات عن مستقبلي المهني الحافل. ثم أصبحت أماً ووضعت جل طاقاتي لهم. فأنا أُكثر من التأمل في التفاصيل الدقيقة، جميع حواسي مستيقظه طوال الوقت. تمر علي المواقف اليومية كمشهد سيريالي، أرى المواقف بعيونهم الصغيرة واتصورها كما تتصورها مخيلتهم الكبيرة واسترجعها كذكرى قديمة لهم. يحدث كل هذا في نفس الوقت الذي اعيش به هذة المواقف. لطالما كنت الفتاة ذات الحس العالي لمن حولي ولكن هذا الاحساس تضاعف حتى فاض مني مع أطفالي.

تصحبني الكتب الصوتية هذة الأيام، للتو أنهيت رواية أوراق شمعون المصري مع مجموعة قراء رائعين. تناولت الرواية قصة بني اسرائل مع نبي الله موسى. اعتقد أن القصص بها كثير من الاسرائليات التي لا نصدقها ولا نكذبها. أحببت فيها السرد البسيط الممتع الذي يناسب أيامي المزدحمة. أحاول مصالحة الكتب الورقية هذة الأيام واخترت كتاب الجوع إلى الأمومة. تشرح فيه الكاتبة ما الذي يعانيه الشخص إذا فقد العلاقة مع أمه، أو كنت العلاقة سيئة. تشرح فيه الآثار المترتبة على هذا الفقد وكيف يتم معالجته. ثم تعطي نصائح للأمهات لتجنب هذا الوضع مع أطفالهن. قرأت المقدمة فقط لا اعلم إن كنت أوصي به بعد ولكن الموضوع جيد ويستحق أن يقرأ عنه. واعتقد أنه مناسب لهذة التدوينة، قد أعود لاكتب عنه هنا إذا أنهيته.

سري الصغير: تهويدة

قبل أكثر من ثمانية عشر سنة عرضت على التلفاز حلقة للمسلسل الشهير آنذاك “أهل الغرام” ومن حسن حظي أنها كانت تلك الحلقة. لا أذكر قصتها ولا قصة أبطالها كل ما اذكره منها هو ما سأحاول وصفه الآن، تبدأ الحلقة بمجموعة لقطات تعبر عن ذكريات حميمية بين أم وابنتها. أول ذكرى هي صورة الولادة ثم صورة لأول خطوة للأبنه ثم صورة لأول يوم دراسي لها وهكذا تتابع الذكريات حتى تكبر البنت. وكانت الموسيقى الخلفية أغنية “يلا تنام” لفيروز تُضيف سحر خاص للمشهد.

أثر المشهد عليّ كان جلياً رغم صغر سني وقتها، أحسست بعاطفة قوية تجاه ابنتي التي سأراها للمرة الأولى بعد اثنتي عشر سنة من تلك اللحظة. حفظت التهويدة التي سمعتها ذلك اليوم، أصبحت سري الصغير الذي أخفيه داخل قلبي منتظره بفارغ الصبر لحظة غنائها لابنتي. وبلغ مدى خصوصية هذة التهويدة في قلبي أنني لا أرضى أن أهدي بها أولاد أخوتي كنت أردد لهم التهويدة الشعبية “يا نوم دوخ دوخ بعيون “فلان” نوخ” أغنيها لهم وأنا أضحك طرباً لسر خفي. لذلك كانت لحظة غناء التهويدة “السرية” لابنتي ساحرة جداً، لحظة متخمه بالمشاعر المتراكمة على مدار اثني عشر سنة من الحب والفرح.

اليوم أصبح السر طقساً يومياً نحبه، فأنا اكتب هذة التدوينة بعد أن ناموا أطفالي و ظللت أغنيها لهم أكثر من أربعين دقيقة بلا كلل ولا ملل. ولم يفقدها التكرار سحرها وعذوبتها. ومع كل هذة السنين من التكرار اليومي ابتدعت نسخة خاصة منها، طال التغيركلمات التهويدة الأصلية. احتفظت بالطبع باللحن واستفتاحيتها ” يلا تنام يلا تنام لأهديلك طير الحمام، روح يا حمام لا تصدق بغني للحلو تينام”. أحرص أن تكون تهويدتي الخاصة مليئة بكلمات الحب والعطف. اذكر فيها أسماء أطفالي واتبعها بكلمات تدل على جمال صفاتهم ومدى قرب مكانتهم لي. فأنا اقتنصها كفرصة لتعزيز وتأكيد وتأصيل مدى حبي لهم وإشباعهم به.

قرأت مقالة جميلة عن التهويدة تقول فيها الكاتبة أن الدراسات أثبتت أن تأثير التهويدات لا يقتصر على الأطفال بل يمتد لمقدمي الرعاية أيضاً. بعد يوم طويل من التربية واللعب والرعاية يكون مقدم الرعاية قد ناله من التعب ما ناله. قلق وتوتر وجداول لا تنتهي ثم تأتي لحظة احتضان الطفل وغناء التهويدة ليعم السكون ويهدأ الضجيج. ومفعول التهويدة السحري لا يتم بدون قرب الطفل لأمه ففي أحضانهم الصغيرة يكمن العالم بأسرة، وحاجتنا لتلك الأحضان تعادل حاجتهم لأحضاننا.

تؤمن صديقتي بفعالية هذة الأحضان وتطلق عليها “مضادات الأحزان” وقد قرأت في أحد الكتب ما يثبت ذلك علمياً، اذكر ذلك لأني قمت بمشاركتها صورة من الاقتباس. بل ويوصي الخبراء بأن يكون المعدل الأدنى لعدد الأحضان من ٧ إلى ١٢ حضناً خلال اليوم. لأهميته في الدعم النفسي ولزيادة ذكاء الطفل ونموه الجسدي. فأتت التهويدة كطقس احتفالي يقام في تلك المسافة الضيقة ما بين حضنها وحضنه وبه تختم الأحضان اليومية.

وتعلل الدراسات عن التهويدة وتاريخها وجود الكلمات والقصص الحزينة في بعض التهويدات، أن مقدم الرعاية المرهق نهاية اليوم يُفرغ ما يجول في ذهنه من مخاوف وأفكار في كلمات التهويدة. مثل التهويدة العراقية التي تشكي فيها الأم بعد الزوج المسافر. ثم تؤكد الدراسة أن الكلمات لا تؤثر على فعالية التهويدة على الأطفال لأن ما يعمل على تهدئتهم هو اللحن الذي يسمعه بصوت أمه. أما أنا فلي رائي آخر، إن كانت الكلمات لا تؤثر على عمل التهويدة في تهدئة الاطفال ومساعدتهم على النوم فهي تؤثر بكل تأكيد على وعي الطفل المسكين والرسائل التي تصله من مقدم الرعاية. شتان ما بين طفل ينهي يومه بكلمات حزينة وبين طفل ينهيه وهو ممتلئ بكلمات الحب والثناء بصوت يحبه ويألفه ويثق دائما بأن ما يخبره هو الحق.

كعكة العصر امتدادًا لطقوس أمهاتنا

أي فترات اليوم هي المفضلة لديكم؟ كنت سابقاً أجاوب على هذا السؤال مباشرة وبدون تردد أن فترة الصباح هي الوقت المفضل لدي. رائحة الصباح، وجبة إفطار لذيذة أفكر فيها قبل النوم ليزداد حماسي للإستيقاظ، وبداية يوم جديد. حتى غيرتني الأمومة في هذا الجانب كما غيرتني في جوانب عده وأصبحت أرى أن كل وقت هو وقت يستحق الإحتفاء به وبطقوسه الخاصة.

الصباح وشعور البدايات:

لطالما كنت أحب البدايات في كل شيء، يشتعل حماسي لحظة اتخاذ قرار معين والتجهيز له والإنطلاق بسرعة عالية ثم ما ألبث حتى أبدأ تدريجياً بالهدوء والاستمرار عليه بتوازن والعودة للبحث عن بدايات جديدة. في البدايات فرصة جديدة للتصحيح والعودة باستعداد أفضل بفضل ما تعلمته من الدروس السابقة، في البدايات حماس التجربة الجديدة والتعرف على بيئة مختلفة والنظر عن قرب لتنوع العالم وتنوع المجالات فيه. أحب البدء في كتاب جديد، أول رفرفات لجنين ينمو، حماس الموظف أو الطالب الجديد، تحضير مقادير طبخة مفضلة أو وصفة جديدة، الهبوط في مطار جديد ووجهة جديدة، ومثل ذلك كثير.

مازلت أحب الصباح مع أنه اصبح أكثر ازدحاماً مع طفلة تخطو سنواتها الأولى في التعليم وطفل دارج -كما يُسمى في المصطلح العلمي-. لم يمضى سوى أسبوع ونصف منذ بداية العام الدراسي الجديد ولم يأخذ صباحي شكلاً واضحاً بعد، أصبحت مسؤولة عن طفلي الدارج فقط بالإضافة إلى العمل على مشروع والتخطيط لمشروعيين آخرين. عند الاستعداد للذهاب للمدرسة أحب أن أضع أذكار الصباح للأطفال ليساعد ابنتي على الحفظ والترديد خصوصًا ان المدرسة ليست بعيدة بما يكفي لنسمعه في السيارة.

الظهر وموعد الأحبة:

أما الظهر فهو موعد عودة طفلتي وعودة الحياة لمنزلي الصغير، ما بين الذهاب لإحضارها ومحاولة معرفة أحداث يومها متع ومسرات صغيرة. جربت الأسئلة التي وضعها مختصين للأطفال وانبهرت من سرعة إستجابتها والحماس الذي أبدته والذي قابله برود تام وتجاهل عند سؤالي نفس السؤال ولكن بأسلوبي أنا! يقول المختصون لا تسأل سؤالاً عاماً مثل “كيف كان يومك؟” أو “ما الذي حدث اليوم؟” حاول أن تجعل سؤالك مفصلاً ودقيقاً ليجاوب طفلك ويستجيب معك مثل “ما أكثر شيء جعلك تضحك اليوم؟” أو “من الذي ساعدك اليوم؟” وهكذا سيبدأ الطفل بالاستجابة و قص الأحداث المرتبطة بسؤالك وقد يتذكر أحداثاً أكثر يقصها أيضًا عليك.

العصر ورائحة الكعك:

أحب رائحة الكعك في المنزل لأنه مرتبط عندي بذكريات عزيزة، ,اريد أن اصنع لأطفالي ذكريات كتلك. فأعدت إحياء هذا الطقس امتدادًا لحنان أمهات التسعينات الميلادية وما قبل. نحب كعك البرتقال و كعك الفراولة والكريمة البيضاء وأحاول أن اعيد طقوس قديمة مثل إعطاء أطفالي أداتي الخفق ليأكلوا ما تبقى. استطيع أن اتصور تلك الأيام أمامي الآن وأنا انهي بقايا الكريمة اللذيذة. وبالطبع لا ننسى الكعكة الرخامية بتموجات الشكولاته والفانيلا، ولكن الكعكة المفضلة عندنا هي خبز الموز.

كل من يعرفني يتعجب عند معرفة أن الموز هو فاكهتي المفضلة أنا وطفلي الاثنين. نستهلك الموز بشكل يومي ونادراً ما يفسد عندنا الموز أو ينضج تماماً. عندما ينضج الموز يكون كطقس احتفالي لأننا موعودين بخبز الموز الشهي والذي يشترط نضج الموز ليزداد طعمه حلاوة. اتبع فيه وصفة أروى العمراني ولكن استبدلت الزبدة العادية بالزبدة البنية التي نقلت الطبق لعالم مختلف وأضيف مع الخليط قطع من اللوز لإضافة قرمشه لذيذة. بعد استخدام الزبدة البنية لم استطع أن اعدها بطريقتها الأساسية مرة أخرى. ولنستفيد من وقت انتظارهم أثناء أدائي لمهام صعبة على الصغيرين نستخدم جهاز عدنان معلم القرآن لمراجعة السور أو حفظ سورة جديدة، لاحظت حماس ابنتي للحفظ والترديد ازداد عندما اصبح روتيناً ارتبط مع نشاط الطبخ المشترك. وهكذا أصبح للعصر طقس محبب لي ولأطفالي.

المغرب والعشاء ما بين العمل والاسترخاء:

المغرب قصير جداً ووقته مزدحم بالكثير من المهام مثل الصباح، إعداد العشاء ثم تناولة والتهيئة للنوم. أجهز وجبة الـ lunch box وأعد ما يمكن إعداده ليحفظ لي بعض الوقت في الصباح. ثم بعدها كما يقولون -ولا اتفق معهم فيه- هو وقت الأم الخاص. أفضل أن اسرق لي بعض الأوقات خلال اليوم واطوع مهامي على وقت أطفالي. علمتني الأمومة إدارة المهام والوقت كما لم يعلمني إياه شيئاً من قبل.

الآن عندما أُسأل أي فترات اليوم هي المفضلة لدي؟ أجاوب كلها، وكل واحدة تزيدني حماس لما بعدها. ماذا عنكم؟ أي الفترات تحبون؟ وهل عندكم طقوس مختلفة لكل واحدة منها؟

ما بين الإهمال وفرط التربية

الكل يطمح أن يكون طفله الأول على الصف، وموهوب، وذكي، ورياضي، وقارئ، ومفوه، وحافظ للقرآن، وذا دين وأخلاق حسنة… الخ من الصفات التي لا يمكن أن يتصف بها شخص واحد لأن الكمال صفة إلهية. مع ذلك فإن هذا الهدف الغير واقعي هو هدف الكثير من الآباء والأمهات. ويجتهدون في تنفيذه إلى أن يصل بهم الحال إلى حالة شائعة عند خبراء التربية قرأتها في أحد الكتب وهي “فرط الأبوة والأمومة” أو Helicopter Parenting وكان لهذا المصطلح وقع خاص علي، أنا الأم لطفلين عمرهما أقل من خمسة سنوات. هذة الحالة هي فرط الاهتمام بالطفل وفرط التحكم بجميع جوانب حياته بهدف الحصول على أبناء مثاليين من الناحية الصحية والنفسية وذو إنجازات أكاديمية وعلى المدى البعيد إنجازات مهنية أيضاً. واحدة من سماتها المميزة أنها لا تقبل أخطاء الطفل وهذا يتنافى مع طبيعتنا البشرية حيث تعد الأخطاء جزء مهم من العملية التعليمية. شُغلت بهذا المطلح منذ قرأته أول مرة، وأردت أن اعرف كيف لفرط الاهتمام أن يؤثر بالطفل؟ وكيف يقارن أثر فرط الاهتمام بالإهمال وكيف أعرف إن كانت تنطبق عليّ هذة الحالة؟

لا أحد يستطيع إلقاء اللوم على الأهالي لأن هناك عوامل كثيرة تؤدي إلى تبني هذا الهدف الغير واقعي. المجتمع أصبح مجتمع إستهلاكي رأسمالي، يحث الأهالي على تحسين فرص الوظائف لأطفالهم! وهذا مثال مُشاهد غير مبالغ فيه. أحد المَشاهد مثلاً تعلم اللغة الإنجليزية قبل تعلم اللغة العربية لأن -بحسب نظر الأهالي- ستكون المنافسة في المستقبل على الوظائف أشد ضراوة منها الآن واللغة الانجليزية مطلب أساسي. التضخم في المعلومات التربوية في جميع قنوات التواصل الاجتماعي من أخصائيين وغير أخصائيين كذلك. سهولة مقارنة الأطفال ببعضهم البعض مع اختلاف خلفياتهم التعليمية والاجتماعية، مما يدفع الأهالي إلى مزيد من الاهتمام والرعاية وجدولة الكثير من النشاطات للطفل ونقصد هنا الإفراط فيها. وكأن الفراغ والملل أمر مهدد لمستقبل الطفل مع أنه على العكس تماماً، يزيد من قدرة الطفل الابداعية باختراع ألعاب تملى عليه وقت فراغه. كما أن المقارنة لا تقتصر على الأطفال فقط بل يقارن الوالدين بعضهم ببعض ويخافون من فشلهم في تحقيق أهدافهم المرجوه من الطفل. كل هذة الأسباب أدت إلى نشأة مصطلح فرط التربية.

عند بحثي عن هذا المصطلح اكتشفت أن علماء التربية قد قسموا التربية إلى أربعة أقسام كما يتضح في الصورة أعلاه، وهي مقسمه كسلسة من الأنواع تبدأ بالصرامة الشديدة وتنتهي بالاهمال التام. وهي مفصله كالآتي:

  • التربية السلطوية (Authoritative): وهي التي تفرض سيطرة الوالدين على الأبناء على جميع جوانب حياتهم وتأمل من الطفل تحقيق إنجازات عالية، وتهتم بإنجازات الطفل أكثر من مشاعره. قد ينتج من هذة التربية أبناء مطيعين ذو إنتاج أكاديمي مبهر ولكن في مقابل هذة النتائج تتأثر علاقة الأولاد بوالديهم، ويعانون من القلق، والخوف من الفشل، وضعف في مهاراتهم الاجتماعية.
  • التربية الحازمة (Authoritarian): وهي التربية العادلة التي من خلالها يستطيع الطفل أن يتواصل مع والديه بطريقة إيجابية لأنها تهتم بمشاعر الطفل مع ذلك هي لا تهمل الحدود المفروضه على الطفل فتتعامل مع اخطائه بحزم. ينتج من هذة التربية أطفال ذو ثقة عالية بالنفس، ومهارات اجتماعية ممتازة، وعلاقة وثيقة مع الوالدين أُسست من الصغر.
  • التربية المتساهلة (Permissive): هم أصدقاء أبنائهم ليس هناك حدود للطفل، ولا تتعامل مع أخطائهم بشدة فهي تهتم لمشاعر الطفل أكثر من اهتمامها بتقويم سلوكه. ينتج من هذة التربية أطفال غير مسؤولين، لا إنجازات أكاديمية تذكر، لا رادع لهم ولا أساس يلتجؤون إليه للتحقق من صواب أفعالهم.
  • التربية المهملة (Uninvolved): يوفرون حاجات الأطفال الأساسية مثل المأكل والمسكن ويهملون جميع الجوانب الأخرى. لا يأملون من أطفالهم أي شيء ولا يفكرون كثيراً في ذلك. ينتج من هذة التربية -وإن صح تسميتها تربية- أطفال بأمراض نفسية، ولديهم نقص في الثقة والأمان، ضعف مستوياتهم الأكاديمية، غير مسؤولين، علاقاتهم الإجتماعية سيئة.

وقد اتفق علماء التربية على أن التربية الحازمة هي أفضل الأنواع، وقد تختلف التربية لكل طفل عن الأخر في العائلة الواحدة وذلك لعدة عوامل أهمها الحماس في البداية، الثقافة والإطلاع، الخبرة، كثرت المسؤوليات.. الخ.

ولكن ما علاقة ذلك بفرط التربية؟ وأين هو من هذة الأنواع؟ فرط التربية لا يتعارض مع أياً منها -ما عدا التربية المهملة طبعاً لإنعدام وجود الاهتمام من الأساس- بل يكون عامل إضافي يختلف باختلاف الأهداف. فمثلاً فرط التربية في التربية السلطوية والحازمة تعني أن الوالدين يعملون جاهدأ أن يحصل الطفل على ما يردونه هم ويضعون أهدافاً ويمضون قدماً لتحقيقها. أما التربية المتساهلة فهم من يعملون جاهداً لكي يحصل الطفل على ما أراده هو. وفي كل الحالات يتدخل الأباء بشكل مفرط يؤدي إلى إنقلاب أهدافهم تماماً وفساد الطفل. ومن آثار الإفراط في التربية كما وصفتها مقالة قرأتها:

  • نقص الثقة وقل تقديرالذات.
  • غير قادر على التكيف مع التغيرات.
  • قلق.
  • شعور عالي بالاستحقاق.
  • جاهلين في المهارات الأساسية الحياتية.

نتائج مخيفة قد تختلف عن نتائج الاهمال ولكنها تتشابة من ناحية أنها نتائج غير مرضية وأطفال غير سعيدين. الحل برأي المختصيين أن نجعل الطفل يتعلم من اخطائه أن نجعله يعاني من نتائج قراراته أن نجعله يؤدي المهام التي يسمح له عمره بالقيام بها ونصبر عليه إلى أن يُتمها ويتقنها. علينا أن لا نتدخل دائما بل نختار الأمور التي نتدخل بها بعناية وهي الأمور التي تساعده على النمو واكتساب مهارات تفيده لا تقيده. بالنهاية أرى أن الخيار الأنسب والذي يجب أن نضع نصب أعيننا عليه هو خيار التربية الحازمة العادلة مع إعطاء أبنائنا مساحة لأباس بها من حرية تفيدهم لا أن تفسدهم.

As parents, we have a very difficult job. We need to keep one eye on our children now—their stressors, strengths, and emotions—and one eye on the adults we are trying to raise. Getting them from here to there involves some suffering, for our kids as well as for us

Dr. Gilboa

مصادر: