
استحضر الآن مقطع لفيلسوف هندي، لاقى رواجاً قبل فترة طويلة. يقول فيه الفيلسوف “كان هناك رجل يمتلك محل يبيع فيه الشاي، لا يكاد يسلم أحداً من سطوه لسانه. وإن تسمع له تعجب منه؛ له آراء كثيرة في كل المجالات فهو ينصح الوزير والأمير والشاب الفقير. والدكتور والمهندس والطيار والكبار والصغار. وله من الاراء ما تعجب منه لدقته ورجاحة عقله غير أن مشكلته الوحيدة أنه لا يحسن صنع الشاي!” يقول الفيلسوف أن من السهل جداً على الشخص أن ينتقد الآخرين على أن يلتفت لعمله ويحسنه. ولعلي لفترة طويلة كنت أنا صاحب محل الشاي، كنت أكيل الانتقادات على الشكاؤون البكاؤون. أرى ما لا يرون وأعرف ما لا يعرفون، فأراد الله أن أجرب صنعتهم لكي أعرف ما يدور خلف الشكوى والبكاء.
أصبحت مُدرسة بديلة في يوم وليلة، رزق ساقه الله لي فالحمدلله على ما وهب. وكعادة المؤسسات مع الموظف البديل، رميت في عرض البحر بلا سترة نجاة. وكونها كانت تجربتي الأولى في التدريس شككت في قدرتي على شرح المعلومة وإيصال الفكرة لطالباتي. خصوصاً أنني لم أحب التدريس يوماً ولا أرى نفسي كمعلمة. كنت وقتها اتذكر تحلق زميلاتي حولي قبل كل اختبار لأشرح لهن، ومن ثم اتذكر سعادتهن بعد الخروج من الاختبار والشكر الذي كن يمطرنني به. فأطمئن واستعيد شتات الثقة وأنهض.
وبعد عدة حصص دراسية علمت أن إيصال المعلمة ليس بتلك الصعوبة التي كنت أتخيلها. إنما تكمن الصعوبة في الإعداد للدروس المختلفة حسب المناهج المنوطة بي، التكرار الممل للشرح لكل فصل والمهام الجانبية التي تأخذ من وقت وجهد المعلم. وبالطبع حياة الأم العاملة التي قد اكتب عنها في تدوينة منفصله لأنني فيها استعدت قدراتي الرائعة في التخطيط المسبق وتنفيذ الخطط بالدقة المطلوبة. كنت وقتها استعيد مجد سابق، شعور يشبة الانتصار ودف لم الشمل.
هذة التجربة الجميلة جعلتني أدرك مدى عمق العلاقة التي يستطيع المعلم أن يبنيها مع طلابه. وبشكل غريب جداً استطعت أن أعيد إحياء ذكرى جميع المعلمات والأساتذة ودكتورات الجامعة وأرى من أعينهن ما كان يحدث. وبشكل أغرب كنت استطيع أن اُسقط على الطالبات -في كل فصل ادخله- الشخصيات التي كانت تدرس معي في المرحلة المتوسطة. ولا اعلم لماذا استحضرت هذة المرحلة بالتحديد! في كل فصل أدخله أرى فلانه من هنا متمثله بفلانه من تلك الحقبة التي كنت أظنها ليست بعيده جداً حتى “أصبحت مدرساً”. أدركت أن الاختلاف بين ما يجري اليوم وما كان يجري وقتها لا يمكن أن يحدث في فترة قصيرة.
رأيت فيها مدى تطور مناهج الحاسب الآلي الذي بالمناسبة يسمى الآن “تقنية رقمية”. غبطت هذا الجيل على تنوع منهجهم ومواكبته لتطور العلم نفسه. وبمناسبة الحديث عن تطور العلم ساعدني تشات جي بي تي كثيراً في استعادة المعلومات القديمة وتبسيط بعض المعلمومات لتقديمها للفئة المستهدفة. خرجت من هذة التجربة وقد وثقت علاقتي بالذكاء الاصطناعي أكثر واستطعت أن القي عليه بعض المسؤوليات كمساعد شخصي خارج وداخل إطار العمل. مما خفف عبء المهام الضرورية والتي تأخذ حيز من الوقت والجهد.
هل سأكرر التجربة؟ إذا سنحت لي الفرصة مرة أخرى أن أكون معلمة بالطبع لما لا. لكني سأحرص على تكرار تجربة الأم العاملة سواءاً كنت معلمة أم لا. على عكس ما كنت أعتقد انعكست هذة التجربة عليّ وعلى أطفالي بشكل رائع.
